( طارق زين العابدين )

العودة لصفحة البداية

العودة لفهرس المستبصرين

 

البطاقة الشخصية

 

مولده ونشاته : من مواليد السودان ، نشأ في أسرة تعتنق المذهب السني ، كان منذ صغره مهتما بصياغة أفكاره ورؤاه وفق الأسس والمبادىء السليمة واليقينية ، فدفعه هذا الأمر إلى البحث والتحقيق في المذاهب الإسلامية حتى لاح بصره نور معارف أهل البيت (ع) فاشتاق لنيل المزيد من هذه المعارف ، فلم يجد أرضية مناسبة لتلقي هذه العلوم سوى دولة ايران ، فسافر اليها والتحق فيها بكلية الإلهيات والمعارف الإسلامية في مدينة مشهد ، ومن هنا تجلت الحقائق التاريخية له ، وتوصل إلى قناعات جديدة ترتبط بالاعتقاد والمصير الأبدي ، فلهذا لم يجد مجالا للمساومة أو المماطلة ، فاعتنق مذهب التشيع بعد الاعتماد على الأدلة والحجج والبراهين المقنعة.

 

دوافع توجهه للبحث : أدرك الأخ طارق بعد وصوله إلى مرتبة النضج الفكري بأن الدين الإسلامي هو نظام الحياة الذي به يحدد الانسان المؤمن المسار الذي ينبغي أن يسير على ضوءه في هذه الدنيا ، فلهذا لابد أن يقوم هذا الاعتقاد على أساس يبعث اليقين والطمأنينة ، ولا يصح أن تنال المصائر بالظنون والتوهمات ، أو تنال بالتقليد الأعمى الذي لا يعرف صاحبه الدليل والحجة غير ما كان عليه الآباء الأولون ، فإذا سئل : لماذا أنت مسلم ، فانه لا يجيب الا بالصمت والحيرة ، وإذا قيل له : لماذا أنت شيعي أو سني ، لم يجد اجابة مقنعة يقدمها للسائل ، كل ذلك لأنه لم يفكر في اعتقاده ومصيره من قبل بحرية ، بل قام كما عنده من اعتقاد على التقليد الأبوي والاجتماعي فصار هذا مسلما شيعيا وصار غيره مسلما سنيا.

 

يقول الأخ طارق في هذا المجال : لابد من التحقيق من سلامة العقيدة بالفحص واعادة النظر وتقليب البصر وأعمال الفكر والتدبر في أحوالها ، لأن العقيدة لا تورث حتى ندعها للفطرة وحدها ، والاتكاء على اعتقاد الأسلاف والآباء والأجداد ممنوع ، وقد قال تعالى : ( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ).

 

ويضيف الأخ طارق : ان الرسول (ص) قد صرح محذرا أمته إذ يقول : (ص) : افترقت اليهود إلى احدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " إذن فالاختلاف الذي وقع بين المسلمين إلى اليوم يؤيد ما ذهبنا إليه في وجوب التحقيق والبحث في ما بلغنا من اعتقاد ، والا فكيف نطمئن على حصول السلامة وبلوغ النجاة ، وكيف نثبت ذلك ونقيم عليه الدليل والحجة ، هذا أمر لا أظن سيستهونه مسلم ارتبط مصيره بيوم فيه حساب ثم ثواب أو عقاب ، ولا أظن انسانا صدق باليوم الآخر ولا يرجو فيه النجاة والسلامة ، فالتحقيق والبحث هو السبيل إلى بلوغ هذه الغاية والحصول على النجاة المطلوبة ، وما يجدر الاشارة إليه إن الذين يفجعون بالمصير السيء والنهاية المشؤومة في تلك الحياة الاُخرى هم الذين سكنت نفوسهم للموروث من العقائد ، ظنا منهم أنه الحق ، وتلذذت أنفسهم بنشوة الغفلة وهدأة النفس لها ، ولما أصابوه من هذه الحياة.

 

وهؤلاء إما أنهم قد أطلقوا للنفس زمامها وحبلها على غاربها بالتهاون والتساهل في أمر الدين ونسيان الحياة الآخرة وعدم مراعاة أمرها بتصحيح اعتقاد أو أداء تكليف ، أو أنهم ركنوا إلى الأوهام في اعتقادهم وغاصوا في بحار التوهم بحثا عن اللؤلؤ دون أن يتفطنوا إلى أن اعتقادا كهذا لا وجود له حتى يأتي باللؤلؤ النفيس ، فليس الوهم الا عدم محض لا يوجد الا في الخيال.

أو أن هؤلاء قد استلقوا في أحضان الظن في أمر العقيدة ، وذاقوا بهذا يسيرا من مذاق الحقيقة بعد اختلاطها بقدر حمٍ من الباطل ، وهم في غمرة هذا المذاق الحلو الذي يتلمظونه بين كم من المرارة ركنوا لمذاق الباطل الذي خلطوه به ظنا منهم أن للحق مذاقا كهذا إذ أنهم خلطوا عملا صالحا بآخر سيئا ( إن يتبعون الا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ).

 

والذين يمحصون اعتقادهم الديني ليبلغ حد اليقين أوقدرا من اليقين تضعف نسبة الشك والظن فيه بصورة تجعل مقدار الشك لا يؤدي وجوده إلى زوال الطمأنينة في الاعتقاد ، فهؤلاء أقرب من غيرهم إلى النهج الذي رسمه النبي الأكرم (ص) لكي يسير عليه الناس ، بل هؤلاء لا يعجزون عن التماس الأدلة والحجج القوية على اعتقادهم هذا من حيث موافقته لآيات القرآن وأحاديث النبي (ص) ومسلمات العقل وفطرياته ، فهم في حقيقة الأمر يأنسون ، في اعتقادهم الممحص هذا ، إلى التفسير السليم لنقاط الخلاف بينهم وبين الفرق الاُخرى ، تفسيرا يخلو من التكلف الذي لا يرتضى أبدا في مثل هذه المواقف ، بل يقفون على أعتاب التفسير الحكيم لهذه النقاط الخلافية دون أن تتلجلج النفوس الحرة في قبوله ودون أن يخالفه القرآن أو الحديث أو مقتضيات العقل المتوازنة ، فهكذا يجب أن يكون الاعتقاد في المسائل الدينية الأصلية ، ولا يتأتي ذلك الا ببذل إلهمم في البحث والتحقيق والتنائي عن العصبية والجاهلية والتقليد الأعمى.

 

متطلبات التحقيق في أمر العقيدة : يقول الأخ طارق حول شروط البحث في الأمور العقائدية : إن من حزم الأمر على التحقيق والبحث في اعتقاده فهو لا يستطيع احراز شيء من تحقيقه إن كان مفعما بالتعصب والتقليد اللذين لا يتيحان الفرصة للتحقيق الحر ، فلابد له لكي يكون حر الحركة والتفكير أن يفرغ نفسه من كل ما يمكن أن يتسبب في افساد التحقيق عليه والحيلولة بينه وبين ما يصبوإليه من بحثه ، وأن يهيىء نفسه جيدا لتقبل الحقيقة التي يصل اليها ، بعد انجاز التحقيق والاطمئنان إلى سلامته من حيث المنهج السليم والأدلة المقنعة بلا شك ، لأن الخوف من خوض التحقيق أو الخوف من تقبل النتيجة عدو المحقق النزيه ، فالنتيجة تحتم عليه رحابة الصدر لتقبلها باعتبار أنها الحق ، بل تحتم عليه الدفاع عنها وعرضها على الآخرين ، ومن لا يهدف إلى هذا من تحقيقه وبحثه فعليه الا يشرع في شيء من التحقيق لأنه يكون عندئذ مضيعة لوقته ، بل يكون عبثا ولعبا ، ولماذا يتحمل المشاق ويقطع الحجة على نفسه ، ثم لا يقبل نتيجة بحثه وتحقيقه ولا يدافع عنها.

 

الأسباب الموجبة للتحقيق في أمر العقيدة : يقول الأخ طارق حول الأسباب التي دفعته للبحث والتحقيق في أمر العقيدة : لاشك أن ما ندين به من عقائد يحتوي على قدر جيِد من الحقيقة ، بل بالنظر إلى وجود القرآن بيننا يجعلنا نتسطيع أن نجزم بأن ما بين أيدينا هو كل الحقيقة ، ولكن وجود الحقيقة بيننا شيء والعمل على أساس هذه الحقيقة شيء آخر ، فالنبي (ص) لم يأمر باتباع القرآن أو العمل به فحسب بل قرن به ما قرن ، وهذا المقرون بالقرآن ليس فيه حقيقة تنفصل عن القرآن وتخالفه ، بل يبيِن ما اشتمل عليه القرآن من الحق ، إذن فالمقرون بالقرآن هذا لا نستطيع أن نقف من دونه على ما جاء به القرآن من الحق ، وهذا هو السبب الذي لا نستطيع معه أن نقطع بأن ما ندين به يشتمل بلا ريب على اليقين دون الظن ، وكثير من الأسباب أدت إلى عدم القطع هذا فكان دافعا للتحقيق والبحث ، ومن هذه الأسباب :

 

أولا : الفتن والاختلافات الحادة : إن الفتن والاختلافات التي عصفت بالمجتمعات والأفراد المسلمين ، منذ نعومة أظافر الإسلام ، وقد بدأت هذه الاختلافات والنبي (ص) لما يرتحل من بين الناس آنذاك ، فلقد اختلفوا في أهم مسألة ترتبط بمصير المسلمين وهم جلوس في حضور نبيهم (ص) ، وهو الاختلاف الذي عرف فيما بعد بـ " رزية يوم الخميس " ، ولا تخلو من حكايته كتب السير والأحاديث ، ولا شك أن هذا الاختلاف قد القى بظلاله على زماننا ، وأحيطت الحقيقة على اثره بقدر من الإبهام أدى إلى صعوبة التعرف عليها بعينها ، ولا سيما بعد افتراض عدالة كافة الصحابة الذين كانوا أول من أختلف في أمور الدين ، فقد أسدلت هذه العدالة الشاملة ستارا معتما على كثير من الأمور ، ومنعت التطرقالى البحث والتحقيق فيما وقع بين الصحابة من اختلاف بهدف ادراك الحقيقة ، فتهيب الناس السؤال عما حدث لمعرفة الحق من الباطل ، وبسبب هذه العدالة استوى عند المسلمين في هذا العصر الخطأ والصواب لأن المتخالفين من الصحابة كلهم مأجورون ومثابون فانتشر الإسلام على هذا يدين الناس بأمور كثيرة مختلف عليها فيه.

 

ثانيا : تعدد الفرق الإسلامية : ذلك أن اختلافا كهذا حدث بين الرعيل الأول ـ ولا سيما بعد الركون إلى عدالتهم كافة ـ قد أدى إلى بروز فرق لا تحصى ولا تعد في المجتمع الإسلامي ، والعجيب أن أعضاء هذه الفرق ـ وهم لا يجوزون بحث الخلاف بين الصحابة ـ تراهم يبحثون حول ما حدث بينهم أنفسهم من اختلاف ، وقد غفلوا عن أن اختلافهم هذا كثير منه معلول الاختلافات الأولى ، فاثبات الحق لفرقة وسلبه عن فرقة أخرى ، هو في الواقع نسبة ذلك الحق إلى رأي من آراء بعض الصحابة في المسألة المختلف فيها ، وسلبه عن الفرقة الأخرى هو سلب هذا الحق عن البعض الآخر منهم في نفس مسألة الاختلاف ، وقد طعنوا بذلك في عدالة كافة الصحابة من مكان بعيد.

 

ثالثا : بعد المسافة الزمنية بين زماننا وزمان النبي (ص) : وهذا من الأسباب القوية التي تؤدي بلا شك إلى بعث غريزة التحقيق والبحث في أمور الدين ، لأن ما صدر من النبي (ص) لابد له أن يطوي كل تلك المسافة متنقلا بين أنواع أفراد البشر والمجموعات المتخالفة التي لا تعتمد الا ما وافق الرأي منها ولا تحتفظ الا بما تراه صوابا ، وهي في تحديدها الصواب من الخطأ تتنازعها أمور وتتناوشها أشياء ، فالنسيان والخطأ والهوى والتقليد والعصبية والقبلية والحقد ... كل ذلك سيضع آثاره على ما روي عن النبي (ص) من كلام ، وجب علينا التعبد به ونحن في هذا العصر البعيد عن زمن الرسالة ، فالذين ينقون ما يمر عبرهم من أقوال وأفعال صدرت عن النبي (ص) .. على أي معيار يعتمدون في هذه التنقية ، ومن يجرح غيره ويتهمه بالنسيان وكثرة الخطأ يجرحه بأمور هو نفسه عرضة لها وإن كان ثقة عادلا ، هذا فضلا عن الذين شمروا عن سواعدهم لوضع ما لم يكن عن النبي (ص) صدوره ونسبتِه إليه بعد ذلك ، وهم أكثر وأشد نشاطا وفعالية ، وعملهم أسهل وأهون من عمل الاصلاح.

 

رابعا : حصار أهل البيت وتكميم أفواههم : لقد كان الخليفة الأول وكذلك الخليفة الثاني يرجعان في كثير من الأمور إلى أهل البيت ، فأبو حفص كان مفزعه في أمور الدين الامام علي (ع) ولهذا صدر منه مرارا قوله : " لولا علي لهلك عمر " ، وقوله : " اللهم أعوذ بك من معضلة ليس لها أبو الحسن " ، وهكذا كان دأبهما ، وأعلمية أهل البيت ـ وعلى رأسهم الامام علي (ع) ـ من الحقائق التي لا مراء فيها ولا جدال ، وقد اعترف بذلك أبو بكر وخليفته أبو حفص ، واستمر الحال إلى زمان عثمان حيث استولى بنو أمية على مقاليد الأمور في الدولة الإسلامية ، وتصرفوا في كلِ شيء حتى هيمنوا على السلطة تماما ، فتغير الحال وحورب أهل البيت ، وحوصرت أقوالهم ، وسُلب حقهم في المرجعية الدينية فضلا عن الخلافة ، واستمر الحال هكذا إلى آخر يوم في الدولة العباسية ، فنشأ الناس على ترك أهل البيت ، ثم ان الحصار في دولة بني أمية لم يقف على ابعاد أهل البيت النبوي عن المرجعية فحسب ، بل تعدى إلى ابرازهم بنحو يؤدي إلى نفور الناس منهم ، ولهذا الغرض استنوا سبَ الامام علي (ع) أكثر من خمسين عاما.

 

وضرب الحصار على من يرجع اليهم في أمور دينه ، وقتل من لم يطلق لسانه فيهم بالسباب والشتم ، وهيِئت الفرص لمن يسبهم ويجافيهم ، وأمر معاوية الناس في بقاع الدولة بابراز محاسن غيرهم في مقابل ما أبرزه النبي (ص) من محاسن لهم ، ثم قُتلوا بعد ذلك شر تقتيل ، فليس منهم الا مسموم أو مقتول.

كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمإله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليا ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة علي (ع).

 

والسؤال الذي يطرح ببراءة : لماذا حارب الأمويون طيلة حكمهم هذا علماء أهل البيت ، ولأيِ شيء قتلوهم ، ولماذا نسج على منوالهم العباسيون ، وقد يجيب أحد بأنهم نافسوهم في الحكم والسلطة ... ولكن ، هل كان أهل البيت يعارضون حكم الأمويين لو كان قائما على ما جاء به الوحي وقضى به النبي (ص) ، وهل كان من الوحي سب الامام علي أو قتل الامام الحسين بالصورة الوحشية التي عرفها التاريخ ، أو كان من الوحي اطعامهم السم الزعاف ، وهل كان أبناء الرسول يحبون السلطة من أجل السلطة والحكم ، وماذا تضرر العباسيون من عترة النبي (ص) حتى انتهجوا معهم ما انتهجه الأمويون ، ان أهل البيت بعد الضربات الأموية لم تبق لهم تلك الخطورة السياسية التي تعتمد على قوة الجيش والسلاح ، فقد انفض الناس من حولهم أما خوفا من القتل والسبي ، وأما انجذابا نحو الأصفر والأبيض من أموال السلطة ، وصار أهل البيت تحت المراقبة الأموية في منازلهم وبين أهليهم ، أو في المحابس وفي سجون الحكومة العباسية ، وهذا يكفي الحكام لتوطيد حكمهم ، إذن ... لماذا القتل ، وهل كان لأهل البيت كخطر الجيوش والسلاح لا يزول الا بقتلهم ، وما ذاك الخطر ، وهل كان السبيل إلى الصلح والتوافق معهم قد أغلق تماما.

لقد كانت المسألة بين الحكام من الأمويين والعباسيين ، وبين أهل البيت مسألة الدين والشرع ، فالحكام في نظر أهل البيت قد خالفوا الشرع والنهج المحمدي ، وأهل البيت في نظر الحكام خطر ديني أساسي لا يحتاج إلى جيش وسلاح.

 

وهذا الامام الحسين يصور حقيقة النزاع بين الحكام وأهل البيت ، يقول الطبري : وقام الحسين في كربلاء مخاطبا أصحابه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، أن رسول الله (ص) ، قال : من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ، ناكثا لعهد الله ، مخالفا لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول ، كان حقا على الله أن يدخله مدخله ، الا وان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله ، وأنا أحق من غيري.

فإذا كان النبي (ص) قد ربي أبناء الناس على الدين خير تربية ، أتراه تاركا أبناءه على غير تربية الدين ، لا ، بل لهم الأولوية في التربية والنشأة على الوحي ، والا فانه يكون كالآمر بالبر والناسي لنفسه.

 

ولما كان هدف أهل البيت اقامة الدين واجراء الشرع الذي تربوا عليه وهم أولى بذلك ، كان الحكام في زمانهم يهدفون إلى السلطة فحسب ، لأن الذي لا يهدف إلى شيء الا أن يرى الدين قائما ، لا يضيره شيء إن قام الدين بغيره من الناس على الوجه المطلوب ، وهكذا حوصر أهل بيت النبوة من كل صوب ، ومنعوا من الكلام في أي أمر في مجال الدين سياسيا وعباديا ، فإن كان هذا حال أهل البيت فمن من أتباعهم تكون له جرأة الكلام والتفوه بما يرضي العترة النبوية ، فلو استهان أمر أهل البيت عند الحكام فلامر أتباعهم أشد هوانا ، ومع ذلك ظهر على سطح الساحة الدينية علماء صار حقا لفتيا لهم ، وارتضاهم الحكام ، وقصدوا إلى فرض ما أفتوا به على الناس ونشره بينهم ، فقربوهم اليهم وأجزلوا لهم العطاء ، فلو كان ما أفتى به هؤلاء يرضي سريرة أهل البيت (ع) ويوافق ما هو عليه من أمر ، فلماذا لم يترك الحكام أهل البيت لأن يفتوا أو يقولوا بهذا ما دام لا يضيرهم منه شيء ، أم أن هؤلاء كانوا أعلم من أهل البيت بأمور الدين والوحي ، ولكن أهل البيت لم يكونوا ليقبلوا بالصمت امام الظلم وجور الحكام ، كما سمعت من كلام الامام الحسين (ع) وأما من قرب من العلماء وارتضي من قبل الحكام فلم يكونوا يرون ما كان يراه الامام الحسين وأهل البيت كافة ، ولذا أفتى هؤلاء العلماء بما زعموا أنه من رسول الله (ص) : من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية وبعد هذا فكيف لا يقبل الحكام هذه الفتاوى وأصحابها من العلماء، وكيف بعد هذا يسمع لأهل البيت فتوى في الدين ، ولهذا أبعد أهل البيت ، وقرب من خالفهم من العلماء والناس ، واستمر الحال هكذا وطارت فتواهم كل مطير وانتشرت في البلاد وسار الناس على مذاهبهم ، ولم يلتفت أحد إلى بيت النبوة ومهبط الوحي ، فأخذ الناس الدين عن غيرهم ، وها نحن نرى الخلاف بين اتباع المذهب الجعفري من شيعة أهل البيت وبين المذاهب السنية ، أفلا يدعو هذا إلى البحث والتحقيق".

ومن منطلق البحث والتحقيق وجد الأخ طارق نفسه امام حقائق لا سبيل لانكارها فاعلن ولاءه لآل محمد والقول بامامتهم والالتحاق بسفينتهم مطمئن البال ، مستقر النفس ، مرتاح الضمير ، لأنه شعر بعدها أنه يمتلك عقيدة راسخة وناتجة عن فهم وبحث ودراية.

 

موقفه ممن خاصمه بعد الاستبصار : تعرض الأخ طارق بعد اعلانه الولاء لأهل البيت لجملة من المضايقات من قبل البعض ممن حوله ، لكنه لم يعبأ بها أبدا ، بل كان يتعجب من أولئك الذين عارضوه وخاصموه بشدة ، فيقول في هذا المجال : إن الذي ليس له الشجاعة لتقبل الحقائق والأدلة المقنعة ، ولا يتذوقها الا مره ، لا يجوز له أن يضايق من رضي بالحق وقبل الدليل وتذوق فيه الطلاوة والحلاوة ، غير أنني لم أغلق الباب امام من يرى خلاف ما رأيت ، ويملك من الأدلة ما لم أملك ، على أنه سيظل الباب مفتوحا له ، ما دام ينتهج في حواره قوله تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن ) ، والا فالباب موصد.

 

مؤلفاته :

 

1 - دعوة إلى سبيل المؤمنين : صدر سنة 1418هـ ـ 1998م ، عن مؤسسة الطبع التابعة للآستانة الرضوية المقدسة : جاء في تعريف الكتاب على غلافه الأخير : " لغة الحوار الهاديء مظهر حضاري متقدم ... ومزية بينة من مزايا هذا الكتاب ، إذ مزج فيه مؤلفه بين عمق الفكرة ووضوحها وبين المحاورة الودودة التي تستهدف التعريف والتبصير من خلال المنطق المرضي والبرهان ..." ، إن هذا الكتاب خطوة عسى أن تكون فاعله في ترصيص كيان الأمة الإسلامية من خلال الكلمة المضئية ، للوصول إلى المعنى الاعتقادي والتاريخي المشترك الذي يقف على أرضيته مسلمو العالم ، يتألف الكتاب من تمهيد وخمسة فصول وهي :

التمهيد : التحقيق في أمر العقيدة.

الفصل الأول : عدالة الصحابة.

الفصل الثاني : حديث الاقتداء بأبي بكر وعمر.

الفصل الثالث : خلافة أبي بكر الصديق.

الفصل الرابع : أولو الأمر هم أهل البيت.

الفصل الخامس : الخليفة بعد النبي علي (ع).

 

وقفة مع كتابه : "دعوة إلى سبيل المؤمنين" : يدعو الكاتب في كتابه هذا المسلمين إلى التوحد على هدى الرسول الأكرم (ص) وعدم الانشقاق عنه وسلوك سبيل عترته وأهل بيته (ع) المؤمنين حقا بهدى أبيهم الذي لا ينطق عن الهوى ، وهم أوائل السائرين على الصراط المستقيم الذين اصطفاهم الله واختارهم أئمة للناس ، ويتناول في كتابه مسألة اختلاف المسلمين في ولي الأمر بعد الرسول (ص) ، فيبحث مقدمة في عدالة الصحابة واختلافهم ، ثم يتناول خلافة الخليفتين الأول والثاني فيبحث فيها نصوصا وتاريخا فيرد ما استدلوا به عليها من اجماع مزعوم وشورى غاب عنها المشيرون ، وترشيح أبي بكر للصلاة من قبل ابنته عائشة قرب وفاة النبي (ص).

 

ثم يواصل بحثه مستدلا بالآيات القرآنية وتفسيرها من قبل كبار أئمة التفسير ، وكذلك بالأحاديث النبوية الشريفة التي اتفق عليها المسلمون لمعرفة ولي الأمر الذي تجب طاعته على المسلمين فيجد أن النصوص الشريفة قرآنا وحديثا قد وضحت ولي الأمر بما لا يقبل اللبس والإبهام وهم أهل البيت (ع) الذين لم يتلبسوا بظلم أبدا ، والذين لا يقاس بهم أحد كما وضحت النصوص المراد بأهل البيت وأن حاول البعض التشويش على ذلك عنادا وضلالا ، ثم استعرض النصوص التي تدل إن الخليفة الذي عينه الرسول (ص) هو الامام علي (ع) الذي اختاره الله وليا لكل مؤمن والذي اعترف له بذلك من اغتصب حقه في الخلافة في بعض فلتات السنتهم ، ونحن هنا نوضح ـ باختصار ـ ملامح من الفكرة الأساسية للكتاب.

 

أهمية معرفة ولي الأمر الواجب الطاعة : يوضح الكاتب ذلك بالقول : إن من المسائل التي تفرض علينا التحقيق والبحث حولها باعتبارها من أهم مسائل الدين ، هي معرفة ولي الأمر ، الاعتقاد السائد بين كافة المسلمين أن النبي (ص) هو خاتم الأنبياء والرسل ، أي هو نبي لا نبي من بعده ، وأي اعتقاد بخلاف ذلك يستوجب الكفر بلا شك ، وفرض عدم خاتمية الرسالة يفرض نبيا آخر يأتي بعد محمد (ص) لهداية الناس بعد انقضاء فترة الإسلام ، ولما لم يكن كذلك .. فُهِم الإسلام على ضوء ختم الرسالة بأنه دين كل زمان ومكان ، وهذا منطق بلا شك يتفق وختم الرسالة ، وعلى هذا تصافق وتوحد اعتقاد المسلمين باعتباره أمرا قرآنيا مسلما ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما ) ، وعلى هذا فاننا نستخلص من هذا الاعتقاد المسائل التالية :

 

1 ـ ليس هناك نبي يأتي بعد محمد (ص) ، فهو خاتم وآخر الأنبياء والرسل.

2 ـ ان الإسلام خاتم الأديان ، وهو قد جاء إذا لكافة الناس إلى يوم القيامة.

3 ـ ولكي يفي الإسلام بهذه العمومية لكل البشر ، وحتى يفي بمتطلبات عموم الناس على اختلافهم وتنوعهم زمانا ومكانا ، لابد أن يكون على درجة من القوة والكمال حتى ينهض بالناس دينيا واجتماعيا وسياسيا وخلقيا واقتصاديا ، ولهذا يقول تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا ) ، والله لا يرضى بما هو ناقص غير مكتمل ، كما هو واضح ، بكلِ هذه الخصائص لابدَ لهذا الدين أن يشق طريقه نحو المجتمعات ، ماضيها وحاضرها والناشئة مستقبلا ، لارشاد الناس إلى سبيل المؤمنين ، وابطال كل فكر واعتقاد يباعد بينهم وهذه السبيل ، فهذه مهمة لا تنجز منحصرة في عصر واحد ، بل تقتضي الحضور الدائم في كل عصر ، فكما كان النبي(ص) هو المتصدي لهذه المهمة يكون ولي الأمر من بعده هو المتكفل بذلك ، وهكذا أولو الأمر إلى آخرهم.

 

وأهمية ولي الأمر تنحصر في أمور :

 

أولا : فهو من ناحية أنه رئيس وقائد ومدير لشؤون الدولة الإسلامية ، فله الأهمية السياسية بكل جوانبها.

ثانيا : ومن ناحية أنه المرجع الديني للمسلمين في نواحي الدولة الإسلامية كافة ، فله الأهمية الدينية التي لا تنفصل عن حياة الناس.

ثالثا : ومن ناحية أنه واجب الطاعة فهو يمثل مسألة من أهم مسائل أصول الدين ، إذ أن طاعته أمر الهي تعبدي لابد من أدائه ، وذلك لقوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم ) ، فهذا أمر مطلق قطعي ، وواجب يلزم أداؤه لولي الأمر ، إذا ، فالأمر الصادر من الله تعالى باطاعة أولي الأمر يحتم علينا التعرف على ولي الأمر هذا ، لأداء واجب الطاعة له ، تنفيذا لأمر الله تعالى ، والطاعة هذه تكون لولي الأمر في كل ما يقول ويأمر به وينهى عنه ، فمخالفته في شيء بعد تعيينه معصية صريحة ، ومخالفته في أمر بسبب الجهل به ليس فيه عذر ، لأن تصريح القرآن بالأمر بطاعته هو اشارة إلى وجوده وتعيينه ، والا يكون تكليفا فوق الطاقة ، فمن هو ولي الأمر من بعد النبي (ص).

 

الاستخلاف واجب على النبي (ص) : إن ما يجعل العقل أسيرة الحيرة والدهشة ما يذكره كثير من علماء المسلمين من عدم تعيين النبي (ص) خليفة له من بعده ، واماما يتولى أمور المسلمين في غيابه ، وفي الواقع ان هذا الكلام لا ينتظر من أولئك الذين وُصِفوا بالعلم والمعرفة ، وأنا أجزم بأن الذين يرددون هذا الكلام لم يكلفوا أنفسهم ولو قليلا من البحث والتحقيق حول مسألة تنصيب الامام وتعيينه من جانب النبي (ص) ، إذ أنهم ركنوا إلى تقليد من سبقهم من العلماء ، وتعودوا على اجترار ما قالوا : في هذا الأمر ، دون أن يفطنوا إلى أن القول بهذا فيه اتهام شديدا للنبي (ص) بتركه الواجب وعدم تبليغ أمر الله بتعيين ولي الأمر من بعده.

 

فانه أمر ـ تالله يبعث إلى الدهشة والذهول العقلي ـ إذ كيف يصرف النبي (ص) النظر عن تعيين خليفته من بعده ، وكيف هان عليه هذا الأمر ، ولقد ثبت أن النبي (ص) حينما نعيت إليه نفسه طفق يورد الوصية للمسلمين تلو الوصية في أمور شتى ، مظهرا اهتماما عظيما بأمر الدين ، ومبديا قلقا بليغا بحال المسلمين بعد وفاته ، لقد حذر النبي (ص) المسلمين من الاختلاف والفتن ، ووعظهم غداة ومساء وهجيرا ... كلَ ذلك لكي يبيِن لهم طريق النجاة والسلامة إذا ما أقبلت الاختلافات والفتن كقطع الليل .. فهل كان النبي (ص) لا يرى لولي الأمر من بعده أثرا في نجاة الناس من هذه الفتن ولم الشمل إذا ما حلت بدارهم الاختلافات ، أم كان ادراكه (ص) قد قصر ـ وحاشاه - عن ادراك هذا الأمر ، فأدركه أبو بكر وفهمه عمر ومعاوية ، وفطن إليه بنو أمية وبنو العباس ، وهل الأمر الذي صدر به الوحي موجبا طاعة أولي الأمر لم يكن النبي (ص) يرى أنه يوجب عليه تنصيب خليفة ووليا لأمر الناس ، أم كان يرى أن الله يكلف الناس فوق طاقتهم ، فيوقعهم بعد نبيهم في الاختلاف والتنازع والفتن ، لقد ثبت ، بما لا يدع مجالا للريب ، أن النبي (ص) : ما كان يخرج من المدينة لغزوة الا ويعيِن عليها شخصا خليفة له ريثما يعود ... فهل كان يرى أهمية الوالي على المسلمين في غيابه القصير في حياته ، ولم يكن يرى له أهمية في غيابه الطويل بعد وفاته.

فما هذا القول ، وأي عقل سليم يحكم بذلك ، وأي حكمة يمكن لمسها فيه ، وأي مصلحة تعود للمسلمين من فعل كهذا ، وهل له نتيجة غير الخلاف والنزاع والخصام ، كما حدث في سقيفة بني ساعدة ... فاضطر ذلك العلماء للزج بأنفسهم في تبرير لا يسمن ولا يغني من جوع.

 

عدالة الصحابة واختلافهم : يتابع الكاتب كلامه ، ويقول : ان عدالة كل الصحابة بقضهم وقضيضهم لا تصح ، لانحراف البعض عن سواء السبيل ، وارتكاب بعضهم ما حرم الله تعالى ، ولهذا لا يمكن أن يوصي النبي (ص) باتباع أي كان من الصحابة للنجاة والسلامة من الاختلاف والانحراف ، ذلك لأن أمرا كهذا ينسب إلى النبي (ص) ـ بل إلى الوحي ـ فيه تجويز لارتكاب الأخطاء وفتح الطريق إلى النزاع والاختلاف ، ان اختلاف الصحابة فيما بينهم أمر معلوم ، وقتل بعضهم بعضا مسألة تعج بها صفحات التاريخ ، وانحراف الكثير منهم عن الحق تثبته كتب السير والأخبار ، ثم اننا : علمنا أنه كان في زمان النبي (ص) بعض المنافقين ، علمت أحوالهم وخصالهم ووضح نفاقهم للمسلمين ، ولكن كان هناك أيضا منافقون لم يعلم عنهم شيء ولم يعرف نفاقهم ، ولم تنكشف أحوالهم وقد أخبر الله تعالى نبيه الكريم بذلك في قوله تعالى: ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ) ، ويمكنك أن تتصور خطورة الموقف الذي سيؤول إليه مصير الإسلام وهو بلا راع ، عرضة لهؤلاء المنافقين المتمرسين بالنفاق ، المبتعدين عن الأنظار والأفكار.

إذا كان المنافق المعروف نفاقه أخطر على المسلمين من الكافر المعروف كفره ، فسيكون أولئك المنافقون الذين لم يكن المسلمون يعرفون عنهم شيئا أخطر من أولئك الذين عرفوا ، وذلك لجهل المسلمين بهم ، لشدة خفائهم إذ تمرسوا بالنفاق ومردوا عليه وأتقنوه.

وعلى هذا الأساس لا يستطيع أحد أن يجردهم عن الصحبة للنبي (ص) ، بل كيف يجردهم عنها وهو لا يعرفهم ، بل سيثنى عليهم وسيصفهم بالاخلاص والتوقى بلا ريب ، بحكم ما يبدونه من مظهر ديني يضمن لهم مقاما بين الصحابة العدول ، وبالتالي سيهبهم بكل ارتياح صفة العدالة والوثاقة.

 

فكيف نسد منافذ الخطر والضلال الصادر من هؤلاء المنافقين في الباطن ، المؤمنين العدول في الظاهر، ولهذا كله فمن المحال الممتنع أن يأمر النبي (ص) باتباع كل من هب ودب ممن كانت له صحبة معه من الناس في زمانه ، وهو يعلم إن من بينهم وممن حولهم منافقين مستورين مردوا على النفاق وصقلوا فيه ، إذا ، فالقول بعدالة كافة الصحابة خطأ فاحش ، والأمر باتباع كافتهم دون تمييز لهم عن طريق الوحي أمر ينطوي على خطر بليغ يهدد الإسلام من أساسه ، فلا يأمر به النبي (ص) بحال من الأحوال ، ولهذا تسقط كل الأحاديث التي تجعل من اتباع كافة الصحابة وسيلة للنجاة من الاختلافات والابتداع والاحداث في دين الله ، كما وضح.

 

عود على بدء وبعض النتائج الخطيرة للقول بعدم الاستخلاف : وبعد ذلك كله .. فكيف لم يعيِن النبي (ص) خليفة من بعده ويترك الناس يتناوشهم المنافقون من ظهر منهم ومن بطن ، ويترصدوهم اليهود والنصارى الحاقد منهم على الإسلام الكامن له ، وكيف يسهل على العقل الساذج القبول بأن النبي (ص) : مات بين السحر والنحر ولم يوص بشيء ، وكيف تسكن النفوس إلى القول بأن النبي (ص) لم يستخلف أحدا من بعده ، وذهب لا يلوي من حال المسلمين في غيابه على شيء ، ان هذا كلام لا يلتفت إليه ، إذ أنه تهمة لنبي الإسلام (ص) ، اتهموه بأنه ترك أمته بلا راع عرضة للاختلاف والنزاع والاقتتال ، وهذا فيه اتهام له (ص) بترك الواجب اتهموه بها ، وهو (ص) الرحيم بأمته ، الرؤوف بالمؤمنين ، الذي يأسى لهم ويحرص على هداهم ، كما قال عنه ربه تبارك وتعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) ، كل ذلك كان منهم في غفلة تصحيح ما نتج من حوادث السقيفة ، فقالوا : لم يوص النبي (ص) بشيء ، ومن هنا لا يكون عيب في أن يتولى الخلافة أي كان من الناس ، حتى لو كان فاسقا أو خارجا عن طاعة الله تعالى.

يقول التفتازاني : ولا ينعزل الامام بالفسق ، أو بالخروج عن طاعة الله تعالى" ، ويقول الباقلاني : لا ينخلع الامام بفسقه ، وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار ، وتناول النفوس المحرمة ، وتضييع الحقوق ، وتعطيل الحدود ، ولا يجب الخروج عليه ، ثم ذكر : " بل يجب وعظه وتخويفه ، وترك طاعته في شيء مما يدعو إليه من معاصي الله".

 

وهذا اضراب عجيب من الباقلاني ، فلو كان الخروج على الامام الفاسق غير جائز ، فكيف جاز ترك طاعته في بعض المعاصي ، وهل وجوده على كرسي الحكم ـ والحالة هذه ـ لا يعد معصية في ذاته ، ولماذا بعض المعاصي ، وكيف جاز تخويفه ، وكيف يكون تخويفه ، أوليس تخويفه هذا خروجا عليه ، ولو كان في استطاعة الناس تخويفه وترك أوامره في بعض الأحوال بهذه السهولة فلم لا يعزلونه ، أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ، وهو فاسق ، ما هذه الا خطرفة سببها تجويز امامة الفاسق ، وللسياسة في ذلك الوقت دور كبير في ظهور هذه الفتاوى وانتشار تلك العقيدة : عقيدة امامة الفاسق، لقد ذكرنا أن القول بأن النبي(ص) لم يستخلف أحدا على المسلمين من بعده قول يحمل أخطر الاتهامات للنبي (ص) ، ذلك لأن أمر الله تعالى بطاعة أولي الأمر على سبيل من الجزم والقطع ، كما هو واضح في قوله تعالى : ( وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم ) .. يوضح أن أولي الأمر طاعتهم واجبة كطاعة النبي(ص) ، ووجوب طاعة أولي الأمر توجب على النبي (ص) تعيينه ، فالقول بأن النبي(ص) لم يستخلف اتهام له (ص) بترك الواجب.

 

ان العقل يحكم بأن الأمر بطاعة أولي الأمر وايجاب طاعتهم انما هو على قرار طاعة النبي (ص) ، مما يستوجب تعيينهم من قبل الله تعالى بوساطة نبيِه الكريم ، ولا يجوز ترك تعيينهم للناس ، لأن ذلك ليس في مقدورهم ، فمعرفة الناس لأولي الأمر ـ بدون أن يعرفهم الوحي لهم ـ يفرض أن الناس قادرون علي معرفة من تجب طاعته من البشر ، في حين أن الناس ليسوا قادرين على ذلك ، ولو كان الناس في استطاعتهم معرفة من وجبت طاعته من البشر ـ نبيا كان أم غيره ـ لما احتاج النبي (ص) إلى ابداء المعجزة حتى يعجز الناس بأمره ويصدِقوه فيطيعوه ، فالنبي (ص) واجب الطاعة ، ولكن اتهمه الناس بالكذب والسحر والجنون ولم يصدقوه ، إذا فالناس لا يقدرون علي معرفة أولي الأمر ، ولو ترك لهم تعيين أولي الأمر فستنتج المفاسد التالية :

- إما أن يولي الناس الفاسق ، والله لم يأمر بطاعته ، بل انه لا يحب الفاسقين.

- وإما أن يشتد الخلاف عند اختيار ولي الأمر ، وتقع الفتن من الناس ، لعصبياتهم وقبلياتهم وغيرها من صفات حب الذات ، والاختلاف ممنوع ، والنزاع يجب ارجاعه إلى الكتاب والسنة لفضه ، وأيضا ان هذا الواجب إن كان الناس مسؤولين عنه فيستلزم التكليف بما لا يطاق ، لأنهم لا يعرفون أولي الأمر ، وإن لم يكونوا مسؤولين عنه فيستلزم العبث في أفعال الله ـ تنزه الله عن ذلك ـ حيث أمر أمر وجوب ( كوجوب طاعة الله وطاعة الرسول ) ، ومع ذلك لا يسأل عنه هل أنجز هذا الأمر الواجب أم لا ، ولهذا فلما كان عجز الناس عن معرفة وتعيين أولي الأمر يؤدي إلى تولية الفاسق أو وقوع الاختلاف والتناحر حول تعيين ولي الأمر ، أو يكون التكليف بما لا يطاق ، أو ينسب العبث إلى الله تعالى في فعله ... اتضح أن تعيين أولي الأمر لم يتركه الله لاختيار الناس ، بل انه مسند إليه تعالى.

 

من هم أولو الأمر وماذا يجب لهم : يقول الله تعالى : ( يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شيء فردوه إلى الله والرسول ) ، انك تلحظ في هذه الآية أنه أمر فيها بأمر واحد اطاعة ثلاثة : الله تعالى ورسوله وأولي الأمر ، بوساطة فعل الأمر : ( أطيعوا ) ، وذلك في قوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم ) ، فماذا يمكن أن نفهم من ذلك ، وماذا أراد الله تعالى باشراك النبي(ص) وأولي الأمر في أمر واحد بطاعتهما ، على أن الحال لا يختلف لو فصل الأمر ولم يجمع في فعل واحد.

 

ان اصدار الأمر بطاعة الرسول (ص) وأولي الأمر بهذه الصورة المشتركة في أمر واحد يؤكد لنا التساوي بين طاعة الرسول وطاعة أولي الأمر ، فلما كانت طاعة الرسول (ص) واجبة قطعا فطاعة أولي الأمر واجبة قطعا أيضا ، والعموم والاطلاق الواضح في الأمر بالطاعة لا يسمح باستثناء طاعة أولي الأمر وفصلها عن طاعة الرسول (ص) بأي حال من الأحوال ، أو بأي شرط من الشروط ... إذا ، طاعة أولي الأمر هي من الواجبات في الدين على المؤمنين ، ثم أن النبي (ص) معصوم بلا شك ، ولو على قول من ينسب إليه العصمة في تبليغ الوحي ، فهو معصوم إذا ، وهنا نسأل : ما هي الحكمة في أن يكون النبي (ص) معصوما ، ان الله تعالى لم يدعْ لنبي من الأنبياء مسؤولية التشريع ولم يسند اليهم تأسيس الأحكام والشرع ، فالله تعالى هو الذي يعلم ما ينفع الناس وما يصلحهم ، ولهذا فهو الذي له أن يقوم بهذا الأمر الذي لا يقدر عليه غيره ، وما على الرسول الا بلاغه بلاغا لا يخالجه الإبهام.

 

والله تعالى بإسناد الأمر إلى ذاته العلية يريد أن يبلغ تشريعه الناس دون أي تغيير أو نقص ، سواء كان عمدا أو سهوا ، ولكن الرسول بشر ، والبشرية مجمع الأخطاء والنسيان ، فما هو العمل إذا ما أنزل عليه أمر الله ليبلغه كما أنزل عليه دون تغيير يؤدي إلى التغيير في طريقة وأسلوب التبليغ ، فضلا عن أن يؤدي إلى تغيير الهدف والغاية ، ولهذا عصم الله الأنبياء ، عن الخطأ عمدا أو سهوا ، حتى لا يحدث ذلك التغيير تبعا للخطأ ، وعلى هذا فكل ما يصدر عن النبي (ص) هو الوحي بعينه ، من حيث اللفظ والمعنى تارة ، ومن حيث المعنى فقط تارة أخرى ، ولهذا فالنبي (ص) ( وما ينطق عن الهوى إن هو الا وحى يوحى ) ، فإذا ثبت ذلك فالنبي (ص) لابد أن يدركه الموت يوما ، وسيأخذ بزمام الأمر من بعده أولو الأمر الذين وجبت طاعتهم على الناس مثله (ص) ، وإن كان الوحي لا يتنزل عليهم لاكتمال نزوله ، ان العمل بهذا الوحي ـ طبقا لعمل النبي (ص) به ـ لم ينته ، بل هو باق ما بقي الزمان والمكان ، ونحن نعلم أن حفظ كلام كما قيل دون تغيير هو أسهل بكثير من العمل به وتطبيقه على مسرح الواقع الملموس ، حيث المشاكل والمعضلات والمنعطفات الحرجة ، إذا كيف يتسنى لأولي الأمر القيام بهذه المهمة الأصعب بعد النبي (ص) دون التعرض للخطأ ، إن لم تكن لهم تلك العصمة التي كان يتمتع بها النبي (ص) ، وكيف يصل ما أراده الله إلى الناس عبر أولي الأمر دون خطأ وهم بشر ، ونحن أوضحنا أن العصمة تحفظ الوحي النازل على النبي (ص) دون أن ينحرف عمدا أو سهوا ، لفظا أو عملا ، والله لا يسمح بشيء من ذلك الانحراف.

 

فإن لم يكن أولو الأمر على عصمة النبي (ص) وقع ما لم يسمح به الله تعالى ، وما لم يرده في تبليغ الوحي ، إذا ، وجبت عصمة أولي الأمر كما وجبت عصمة الرسول (ص) ، على أن وجوب الطاعة بالجزم والقطع اشارة إلى العصمة ، فالعصمة أساس وجوب الطاعة ، وبسبب هذه العصمة لا يختلف خطاب الله تعالى للناس ـ إذا قدر أن يخاطبهم مباشرة بتكاليفه وأوامره - عن مخاطبته إياهم عبر النبي (ص) به ، والسر في ذلك هو وصول خطاب الله ذاته إلى الناس بسبب العصمة التي للنبي (ص) .. وهذا يعني ـ من ثَم ـ أن فقدانها في أولي الأمر يؤدي إلى التغيير بلا ريب ، وهو ما لا يريده الله تعالى.

 

نظر الفخر الرازي : ينقل الكاتب نظر الفخر الرازي في تفسيره ويناقشه ، فيقول : يقول الفخر الرازي : ان الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابد أن يكون معصوما عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير اقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وانه محال ، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما ، فثبت قطعا أن أولي الأمر المذكورين في الآية لابد أن يكونوا معصومين.

 

ثم يدلف الرازي إلى تحديد وتعريف أولي الأمر المعصومين هؤلاء ، حسبما يرى ويظن ، فيقول : ثم نقول : ذلك المعصوم أما مجموع الأمة ، أو بعض الأمة ، لأنا بينا أن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعا ، وايجاب طاعتهم قطعا مشروط بكوننا عارفين بهم ، قادرين على الوصول اليهم ، والاستفادة منهم ، واننا نعلم بالضرورة أننا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الامام المعصوم ... ، ولقد ذهب الرازي إلى أن أولي الأمر هم بعض الأمة ، يتمثلون في أهل الحل والعقد ، وبسبب بعد اجماعهم عن الخطأ ـ على ما روي عن النبي (ص) لا تجتمع أمتي على الخطأ ـ تتحقق بذلك العصمة المطلوبة في أولي الأمر ، قوله : ان مجموع الأمة ليس هم أولي الأمر واضح لا يحتاج إلى اثبات ، وأما كون أولي الأمر هم بعض الأمة فأمر نتفق فيه مع الفخر الرازي ، غير أن قوله : ان هذا البعض من الأمة ـ أي أولي الأمر ـ هم أهل الحل والعقد قول تكتنفه اشكالات عدة ، تجعل قبوله أمرا مستحيلا.

فأولها : امكانية وقوع الاجماع ليست متحققة.

ثانيها : من يعرفهم للأمة باعتبارهم أهل الحل والعقد.

ثالثها : أين نتحصل على عصمتهم ، هل في الافراد منهم أو في هيأتهم الاجتماعية.

ان امكانية تحقق وقوع الاجماع من المستحيلات في هذه الأمة ، لا سيما في اختيار القادة والرؤساء ، ودونك الواقع يصرح مؤكدا ما نقول ، نعم من المحال أن تجتمع الأمة على الخطأ بأسرها ، لكن من المحال أن يتحقق اجماع الأمة بأسرها ، وفرق شاسع بين الحالتين ، فلو دعا بعض الأمة إلى الحق فلابد أن يوجد من يخالفهم من الناس لأي سبب من الأسباب التي لا حصر لها ، فالقومية ، والعصبية ، والنعرات القبلية ، واختلاف الادراك ووجهات النظر ، والعناد ، واللجاج ... كلها منفردة أو مجتمعة تجعل من وقوع الاجماع أمرا لا يرجى تحققه بين الناس.

وان مسألة الخلافة لهي من المسائل التي كان للأمة أن تجتمع عليها ، لو كان للاجماع امكانية الوقوع ، مع قلة المجتمعين في السقيفة ، وما كان لهم من الصحبة التي تجعلهم في مصاف أهل الحل والعقد في زمانهم ، وعلى رغم ذلك فقد نشب الخلاف استحال الاجماع ، وسُلت السيوف ، وأخذ البعض بالقوة ، وأغري آخرون بالمال ... فكيف للرازي أن يحلم باجماع استحال أن يقع بين صحابة النبي (ص) وهم الجيل الأول الذي عاصر النبي (ص) ، ليقع بين الناس في عصره أو ما تلاه من عصور ، أو في هذا العصر الذي ازداد فيه تشعب العقائد وتشتت الأفكار ، على أن الانقسام المشاهد في كل فرقة من الفرق الإسلامية هو تصريح باستحالة تحقق الاجماع ، ولا أرى امكانية وقوع الاجماع بين أهل السنة فيما بينهم ، ولأبين الشيعة بانفرادهم ، فضلا أن يقع الاجماع بينهما مجتمعين.

 

فاجتماع الأمة بأسرها على الخطأ غير ممكن ، ولكن لا يمكن أيضا اجتماعها على الحق بأسرها ، ان واقعة صِفين كانت بين أمة المسلمين ، وقد كان الحق عند أحد الطرفين بلا شك ، ولكن لم يجتمع المسلمون عليه كما لم يجتمعوا على ما يقابله من الباطل ، فنشبت بينهم الحرب ، وقتل بعضهم بعضا ... فلماذا يتكلم الفخر الرازي بكلام يبعد عن الواقع ويعطي مصداقا لآية قرآنية ليس له وجود، ثم كيف يتم التعرف على أن أهل الحل والعقد هم هؤلاء ، فالاشكال الذي أشكل به الفخر الرازي ـ وهو أشكاله بصعوبة التعرف على الأئمة المعصومين ، واستحالة الوصول اليهم ـ هو اشكال يرد عليه ، إذ كيف يتم التعرف على أهل الحل والعقد والوصول اليهم ، ومن الذي يقدمهم إلى الأمة بهذه الصفة ، ونحن ليس لدينا في مجال التعيين الا الاجماع أو الانتخاب والترشيح أو النص.

 

فأما القول بضرورة الاجماع عليهم فنحن به محتاجون إذا إلى اجماعين : اجماع من الأمة يعرفنا بأهل الحل والعقد ، واجماع آخر يعرفنا بصواب ما يصدره أهل الحل والعقد من أحكام وأوامر ونواه ، بحيث تلتزم الأمة بما يصدر عنهم ، وبهذا تتضاعف المشكلة ، لأن العبور من الاجماع الأول إلى الاجماع الثاني محال ، لعدم امكانية وقوع الاجماع الأول ، فالجهد الذي قام به الفخر الرازي لابعاد نفسه عن الاعتراف بالأئمة المعصومين على قول الشيعة ـ لا سيما بعد الاعتراف الموفق منه بعصمة أولي الأمر ـ فهو جهد مقدر ومشكور علميا ، لكنه ناقص ولا يحل المشكلة ، فقد كان عليه أن يبيِن لنا معيار وملاك الاتصاف بأهلية الحل والعقد ، وكيفية تعريف الأمة بهم ، وعلى رغم أن ذلك تترتب عليه مشكلاته ، غير أنه يتيح فرصة أطول لمن أراد السفسطة.

 

أولو الأمر هم أهل البيت (ع) : يقول الكاتب هنا على ذلك بالقول : ان أولوية أهل بيت النبي (ص) في تولي أمور المسلمين ، والانفراد بلقب " أولي الأمر " بعد النبي (ص) دون غيرهم من الناس ... لهي أولوية تأخذ شكلها الطبيعي من عبارات الوحي بشقيه ، فالنبي (ص) لم يكن يرى من هو أولى منهم بهذا المقام ، بل لم يكن يراه لغيرهم أبدا ، إذ أننا نلمس ذلك في المقام الذي حفظه النبي الكريم لهم ، وليس ذلك من حيث الاحساس الأبوي الخاضع لقوانين النفس البشرية ، وإنما هو أمر تلقاه النبي (ص) متنزلا من مقامات الوحي الإلهي ، موضحا السنخية والشبه الذاتي بين أهل البيت النبوي وبين محمد (ص) ذلك لأن الأبوة مهبط لوحي العاطفة التي كثيرا ما تتخطى الحق وتنطق عن الهوى ولهذا فمقام أهل البيت لما كان مرتكزا على الأمر القرآني بوجوب طاعتهم من حيث إنهم أولو الأمر ، ترى الشق القرآني يمثل أساسا منيعا لمقام العترة ، وحينما ترى وصف السُنة لعترة النبي عليه وعليهم الصلاة والسلام بأنهم الهداة الذين لا يضل من تمسك بهم تعلم طبيعة هذا المقام الصادرة من جانب الوحي الإلهي وعندئذ نعلم السنخية بين العترة ومحمد النبي (ص) ، وبيان هذا المقام ليس له مسير غير قنوات الوحي الذي ينتظم كل نفس النبي (ص) وكل حياته بحركاتها وسكناتها ، ولهذا كان الاستحقاق للخلق العظيم الذي يبرىء النبي عليه وآله الصلاة والسلام من نزعات الأبوة البشرية في بيان مقام العترة ، وعلى هذا الأساس فهو مقام لهم من صميم أنوار النبوة ، بل مقام من مقاماتها ، صاغه الوحي في عبارات لا تخفى على من له مسكة من الادراك وقدر من ملكة التدبر.

 

آية المودة : ( قل لا أسئلكم عليه أجرا الا المودة فى القربى ) ، فالأجر لابد أن يكون على قدر نوع العمل ، ولذا فمودة أهل البيت لابد أن تساوق من حيث القدر ما جاء به النبي الأكرم من نعمة الإسلام والرحمة التي ما أرسل الا بها ، ولو كان هناك أجرا يضاهي ذلك غير مودة أهل البيت يمكن أن يكافأ به النبي (ص) لكان هو الأجر ... وهذا أمر لو تدبرنا عظيم ، ان هذا الأجر أدناه تسليم زمام الأمر في قيادة المسلمين وادارة شؤونهم بعد النبي الأكرم لأهل بيته الذين ساوت مودتهم ـ من حيث انها الأجر ـ نعمةَ الدين الإسلامي من حيث انه مأجور عليه بهذه المودة ، وهذا التساوي يبين السِنخية والشبه القوي بين النبي (ص) وهذا الدين الذي هو خلق النبي المعصوم وطريقة حياته (ص) من ناحية ... والشبه القوي بين العترة الطاهرة والنبي (ص) من ناحية أخرى.

 

ووجه الشبه بين العترة والنبي الأكرم هو تلك المودة ، من حيث انها واجبة في حق العترة ، ومن حيث انها الأجر الذي استحقه النبي (ص) مقابل ما جاء به للناس من هداية ورحمة ... فمودة العترة كأجر ترضي النبي (ص) بلا ريب ، فهي في حقيقة الأمر مودة للنبي نفسه ، فتدبر.

ولكن ، هل تصح هذه المودة مع المخالفة للنبي في نهجه ، وهل يمكن تصورها مع مشاقة النبي (ص) ، أبدا ، فلا يستطيع أحد ادعاء مودة النبي (ص) وهو مخالف له ، فهذه المودة لا تستقيم الا باتباع النبي (ص) ، ولما كانت مودة النبي (ص) هي في عترته ... فما هو إنسب أسلوب للمودة يمكن أن يحفظ به النبي (ص) في عترته ، اليس هو الاتباع للعترة والاقتداء بهم ، أجل أن مودة النبي (ص) في أهل بيته (ع) لا تعني الا اتباع النبي الكريم بأتباع أهل البيت من عترته ، لأن هذا هو الذي يرضي النبي (ص) ويسره لاغير.

ولو كان ودهم يعني المحبة دون الاتباع فهذا لا يختص بأهل بيت النبي وحدهم ، وإنما هو أمر مطلوب بين عامة المؤمنين الذين هم في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد ... إذا ، فلا يختص أهل البيت بذلك ، ولكن اضافة إلى هذا المعنى الشامل لكل المؤمنين يتوفر معنى آخر يتميز به ود النبي (ص) عما سواه من ود بين المسلمين ، وهو الاقتداء والاتباع بلا ريب ، كما كان حب الله هو اتباع النبي (ص) إذ ليس لحب الله معنى إذا قرن بمخالفة النبي (ص) ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ) .. فحب الله يستلزم اتباع النبي (ص) الذي هو سبب حب الله للتابعين ، وهو رحمته ، ان الهدف الأساسي والدائم للقرآن هو تهيئة وسائل وسبل الهداية والنجاة للناس بحكم أنه رحمة جاءت للناس عبر النبي (ص) الذي ما أرسل الا رحمة بهذا القرآن.

ولا يمكن أن يحدد الله الأجر للناس مقابل هذا الدين وتلك الرحمة ، ويكون هذا الأجر متضمنا للشقاء فهذا الأجر الذي هو مودة العترة أحد قنوات هذه الرحمة الإلهية ، كما لا يمكن أن تتحقق هذه الرحمة مع المخالفة .. إذا لكي تنتقل الرحمة أيضا عبر هذا الأجر ـ أي مودة أهل بيت النبي (ص) ـ لابد أن تعني تلك المودة الاتباع والاقتداء ، وبهذا يتحقق الهدف الأساسي للدين ، وهو هداية الناس وارشادهم لما هو خير لهم وأبقى ، لأن المخالفة عمدا أو تساهلا تبعد المخالف عن قنوات الرحمة تلك ، ولهذا ، لا يستقيم ودهم وحبهم مع مخالفتهم في أمر أو نهج ، لأن في هذا ايذاءهم وايلامهم بلا شك ، ولا يلتئم ودادهم ووداد من صدر منه ايذاؤهم وايلامهم ووداد من كانت منه شكواهم ، ولهذا كانت مودة أهل البيت أعظم أجرا يتلقاه النبي (ص) من أمته .. لماذا ، لأن النبي الأكرم ـ الذي هو عزيز عليه ما ، عنت المؤمنون ، حريص عليهم في هدايتهم ، رؤوف بالمؤمنين رحيم ـ لا يسره شيء مثل أن يرى أمته في نجاة وسلامة في أمن من عذاب يوم عظيم ، ولذا كان اتباع الناس لأهل بيته في دينهم أجرا يتحقق به رضاه وسروره لما سيجده الناس من نجاة وسلامة.

 

آية الانذار وحديث الدار : النبي (ص) وأهل بيته الكرام هم حملة هذا الدين ، وهم العارفون به ، والرافعون عنه ضلالات المضلين وأخطاء الجاهلين ، وأحقاد الحاقدين ، ونفاق المنافقين ، وليس هذا مختصا بزمان دون زمان ، أو مكان دون مكان ، وإنما هذه مهمة ومسؤولية كانت على عاتقهم منذ أن أنزل الله تعالى قوله : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ، فأراد الله بذلك اعدادهم لتلك المسؤولية التي انحصر القيام بها فيهم ، استمرارا لمنهاج النبي (ص) ، ثم ان هذه المسؤولية نالها أهل البيت في مقابل الالتزام الذي تأسس يوم عرض النبي (ص) هذا الدين على عشيرته الأقربين ، طالبا منهم العون والمؤازرة في مسؤولية القيام بتبليغه ، على أن تكون لمن يلتزم المؤازرة والمناصرة الخلافة والولاية علي الناس من بعد النبي (ص) ، فالتزم الامام علي (ع) بذلك مؤسسا بالتزامه هذا مسؤولية عترة النبي الكريم الذين نشأوا وتربوا عليها أحسن تربية وأفضل تنشئة في كنف النبي (ص) ، يرفع اليهم كل يوم علما ، اعدادا لهم واختصاصا بهذا المقام ، باعتباره ثوابا وأجرا لما التزم به علي (ع) مؤسسا بذلك المقام والمسؤولية الطبيعية لذريته من أبناء الرسول (ص).

 

قال رسول الله (ص) بعد أن جمع إليه أربعين نفرا من قريش من بني عبدالمطلب : ... يا بني عبد المطلب ، اني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني على أمري هذا ، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي ، فقام علي (ع) ، فقال : أنا يا نبي الله ، أكون وزيرك عليه ، فأخذ رسول الله برقبته ، وقال : ان هذا أخي ووصيي ، وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا ... ، إذا ، فهذه الأولوية في تولي أمر المسلمين بعد النبي الأكرم أمر ثابت للعترة ، ولا يجوز لأحد أن ينافسهم فيه وينازعهم ، والقبول بهذا الالتزام لنيل هذا المقام هو اشارة واضحة إلى الإيمان والتصديق بنبوة محمد (ص) .. فنالت ذلك العترة بالإيمان المبكر الذي شع في قلب سيِدها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وهكذا ظل الأمر فيهم إيمانا خالصا لم تخالطه شوائب الشرك أو نزعات الشك التي أصابت البعض قبل إسلامهم وبعده.

 

آية المباهلة : ثم انه لما حانت لحظة من لحظات الدفاع عن هذا الدين امام افتراءات نصارى نجران ، لم يستنفر الله تعالى لهذه المهمة العظيمة غير النبي (ص) وأهل بيته الأكارم ، فهؤلاء نصارى نجران يحاجون النبي الكريم من بعدما جاءه من العلم في أمر عيسى (ع) فيأمره الله تعالى بمباهلتهم ، ولكن بعد أن يدعو أهل بيته إذ أنهم شركاء في الأمر ، فقال له تعالى : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين ) ، ان هذا الاسلوب في الدفاع عن الدين والذب عنه ليس في مقدور أي فرد من الناس ، ذلك لأنه ليس فيه سلاح سوى سلاح الإيمان واليقين الصادق بما نزل به الوحي ، بل ليس إيمانا مسبوقا بالشرك أن يمكن أن يخالجه شك من بعد ، وان الدفاع عن هذا الدين بالسيف هو دفاع لاشك فيه ، ولكن قد يكون المدافع لا يملك الا سيفه وشجاعته وحميته ، أو قد لا يملك الا الرغبة في الغنائم ومكتسبات الحرب ... ، أما الوقوف امام النصارى ، ودعوتهم إلى التوجه إلى الله تعالى بالمباهلة ـ لتحديد الكاذب من الصادق في أمر الدين ـ فهو أمر يستوجب يقينا بهذا الدين وربه ، لا يشوبه شيء.

ولما كان الله تعالى لا يمكن أن يختار لهذا الأمر شخصا شاب إيمانه شك وريب أو نقص وضعف .. كان إيمان العترة في أوج كماله وتمامه ، فانتدبهم الله تعالى للذبِ عن الدين بهذا السلاح الإيماني التصديقي ، فدعا الحسن والحسين ، لقوله " أبناءنا " ، ودعا فاطمة لقوله " نساءنا " ، ودعا عليا وجاء بنفسه لقوله " أنفسنا " ، إذ قصد من قوله " أنفسنا : " محمدا وعليا في آن واحد ، وهو يوضح أنهما من نفس واحدة ، وبهذا يؤكد الوحي تقدم أهل البيت في القيام بمسؤولية هذا الدين ، ولازم ذلك عدم أهلية غيرهم لهذه المسؤولية في هذا المقام المتقدم بالذات ، أي مقام أولي الأمر ، فالعامل في السفينة ليست له مهمة الربان فيها ، وليس هو أهل لقيادتها ، وإن حذق في وظيفته ، وإنما هو أهل لما هو فيه من وظيفة ومسؤولية تدار من مقام الربانية.

 

حديث الثقلين : ونسبة لهذه الأولوية في مقام القدوة والاقتداء ، في جميع مناحي الحياة بلا استثناء ، قال النبي (ص) محذِرا : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فلا تقدموهم فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ، ولا تعلموهم فانهم أعلم منكم.

ويقول ابن حجر العسقلاني : وفي قوله : (ص) فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلموهم فانهم أعلم منكم .. دليل على إن من تأهل منهم للمراتب العلية والوظائف الدينية كان مقدما على غيره ، على أن قوله : (ص) : ولا تعلموهم فانهم أعلم منكم اشارة إلى أعلميتهم الأزلية ، وبالتالي تقدمهم الأزلي على غيرهم ... فلا ينتظر أن يتحقق لهم هذا التقدم لاحقا ثم به يتقدمون على غيرهم فيما بعد.

 

وبعد هذا كله ... كيف يمكن أن يتقدم أبو بكر وعمر على باب مدينة علم الرسول (ص) ، أو كيف يتأتي لمعاوية أن يفوق الامام الحسن (ع) في علمه ، أو يبذ ابنه يزيد السكير الامام الحسين (ع) علما ومعرفة ، فكيف تقدم هؤلاء على العلماء من عترة النبي سيِد الأنبياء ، والنبي يناديهم في آخراهم : واجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس من الجسد ، ومكان العين من الرأس ، ولا يهتدي الرأس الا بالعينين ، فواعجبي من القوم فبعد هذا كله تقدموهم وجعلوهم في سوقة الرعية ، لا يؤتم بهم في دين ، ولا يقتدى بهم في عبادة ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، ان أهل البيت هم أولو الأمر بلا مراء ولا جدال ، انه أمر حكم به النقل والعقل ، ويحكم به العقل لو فُقد النقل ، ولكن لو ترك النقل وفقد العقل حكم لغيرهم الجهل ... وعندها لات ساعة مندم ، وهكذا يكون الكاتب قد وفق في عرض دعوته إلى المؤمنين باستدلال متين واسلوب قوي لا يترك للمراء مجالا ، وللفرار من الحق فرصة.

 

العودة لصفحة البداية

العودة لفهرس المستبصرين