( محمد علي المتوكل )

العودة لصفحة البداية

العودة لفهرس المستبصرين

 

البطاقة الشخصية

 

مولده ونشأته : ولد في السودان فى أوائل الستينات ، وترعرع في أسرة سنية المذهب ، واصل دراسته حتى تخرج سنة 1988م من جامعة القاهرة في الخرطوم ، خاض مع جملة من أصدقائه رحلة بحث فكرية ، انتهت بهم إلى شواطىء الولاية لأهل البيت (ع) وكان ثمرة تلك الرحلة ـ بحسب تعبيره ـ هي الاكتشاف الكبير الذي أماط اللثام لا عن الحقيقة ولكن عن الأعين التي كان قد أعماها التقليد ، وحجبها الموروث عن الأبصار.

 

مرحلة الحيرة والضياع : يقول الأخ محمد علي : " كان التناقض واضحا بين المعلومات الأولية التي نفذت إلى ذهني قبل مرحلة المدرسة والتي كان منها التقدير والتقديس للأولياء والصالحين وبين تلك التي زودتني بها المناهج الدراسية ، ومن بعدها الجماعات الدينية السلفية التي كانت ترى كل ذلك شركا وخرافات ، فلهذا تراكمت عندي أسئلة حيرى لا تنتهى واجابات يناقض بعضها بعضا ، فكنت لا أنتقل من مرحله دراسية إلى أخرى الا وأزداد حيرة وضياعا ، وكلما كانت تزداد حصيلتي من المعلومات الدينية كنت أزداد معها تمزقا في سريرتي".

 

الانتماء إلى الجماعة السلفية : ويضيف : " فلم أجد ملاذا بعد أن أعيتني الحيرة واشتبهت على الأمور سوى الانتماء إلى الجماعة السلفية ، وكان ذلك في المرحلة الثانوية ، حيث يكون الشاب متنازعا بين عدد من محاور الاستقطاب الفكري والسياسي ... ، وفي هكذا أجواء تسني لي أن أتعرف على جماعة من الوهابيه فكنت أتردد معهم على المركز العام للجماعة ، وهكذا تبينت معظم أفكارهم وعقائدهم ، لا عن قناعة ولكن بحكم التوافق الاجتماعي وعامل الحشد ، لأن معهم لا مجال للتفكير ولا دور للعقل بل عليك أن تسلم بما يقولون ، فاستمرت علاقتي بهم فترة قصيرة ، بدأت أشعر بعدها بالضياع من جديد ، وانتابني احساس بأن المفاهيم التي أتلقاها منهم ناتجة عن فهم قشري للعبادة والأحكام الشرعية ، وأن عبادة الله مع هؤلاء ليست الا طقوس منضبطة شكلا وفارغة من حيث المضمون ، فلهذا بادرت إلى مفارقتهم وقطعت كل صلة لي بهم ، ومع الأيام كانت الحيرة تتفاقم والشك يتمدد في النفس على حساب كثير من المسلمات الهشة التي لا أساس لها الا في العواطف الساذجة والقداسات المزعومة ، وكانت النتيجة أن فقدت الثقة بكثير من الأطروحات الدينية السائدة ، وأقبلت على حياة الشباب بعيدا عن قيود الدين ، وهذا ما يحدث في الغالب مع أكثر الذين خاضوا تجربة الدين على النمط السلفي ، ما لم ترتبط مصالحهم بالجماعة ، عندئذ يكون الانتماء بدوافع غير دينية ويكون خطر الجماعة على المجتمع وخاصة الشباب عظيما.

 

ارتقاء الوعي في الجامعة : التحق الأخ محمد علي سنه 1983م بكلية الحقوق في فرع جامعة القاهرة في الخرطوم ، وواجه فيها تيارات فكرية وسياسية متعددة ، لكنه توخى الحذر في التعامل معها جميعا ، فكان يتردد على أركان النقاش ويتجول بين الصحف ويسمع ويقرا للجميع ، فلما أحاط علما بتيارات الساحة قرر أن يلتحق بالحركة الإسلامية السودانية ، ومع انتصار الثورة الإسلامية في ايران لفت هذا الحدث أنظار الحركيين في العالم السني إلى التشيع كمنهاج ديني ثوري قادر على قلب موازين الصراع الحضاري على مستوى العالم ، فنشأ بين الطلبة نوع تعاطف مع هذه الثورة وقد أسهمت حالة التسامح الفكري داخل الاتجاه الإسلامي فى تعزيز هذه الاتجاهات والميول.

 

يقول الأخ محمد علي : " في فبراير من عام 1986م ، بينما كنا في " الجبهة الإسلامية " نعد العدة للانتخابات التشريعية ، وقعت احداث دامية بالجامعة أثر مشكلة افتعلها اليساريون ، فتعرضت لإصابة كادت أن تؤدي بحياتي ، فلهذا تقرر أن أنتقل من الخرطوم إلى موطني في الشمالية وهناك شاركنا في قيادة الحملة الانتخابية للجبهة ".

 

تأثر بعض الجامعيين بالفكر الشيعي : يقول الأخ محمد علي : " كان معي في تلك الفترة أحد أقدم أصدقائي وكان على اتصال بمجموعة الثقافة الشيعية بالجامعة ، فتعرف منهم على بعض ملاحظات الشيعة على التاريخ الإسلامي ، ولهذا تشكلت لديه بعض القناعات التاريخية الخاصة ، وكان يود أن يخبرني بما توصل اليه من نتائج ، لكنني كنت في ظروف لم تسمح لي التفرغ للاستماع إلى ما توصل إليه ، وانتهت الانتخابات بفوز مرشحينا ، ففرحت بذلك فرحا شديدا ، لكن لم تدم نشوة النصر طويلا ، لأنني كنت على موعد مع صديقي حتى يطلعني على بعض النتائج التي توصل اليها نتيجة لبحوث أجراها في التاريخ الإسلامي ، وما أحدثته تلك النتائج من اهتزاز في بعض مسلماته التاريخية.

 

الحوار مع المتأثر بالفكر الشيعي : وعند اللقاء افتتح حديثه بالكلام عن تعدد المذاهب في ظل الإسلام ونشأتها وما يتصف به بعضها من قوة أو ضعف ، فعرفت من طريقة كلامه أنه يمهد للدخول في موضوع ربما يكون به شيء من الغرابة ، وبالفعل فقد تطرق إلى الفتن التي تلت عهد الرسالة ، وأخذ يضع جملة من الاستفهامات حول الواقعة وأسبابها وأطرافها ونتائجها والمسؤول عن تبعاتها والدماء التي أهدرت فيها و ... فقلت له : وقد غشيتني سحابة من الكآبة : يا أخي ما لنا وفتح ملفات كهذه ، وأي نفع يأتي من ذلك ، اليس حريا بنا أن ننظر إلى الجوانب التي نفهمها من حياة الصحابة وندع تلك التي تستعصي على أفهامنا لأهلها ، فقال : ولكن لو كنت تعلم أن انقساما كبيرا وقع بين المسلمين نتيجة لتلك الاحداث أصبحوا بمقتضاه مذاهب شتى ، لا تعدو مذاهب أهل السنة التي ننتمى اليها أن تكون بعضها ، لعرفت عندئذ أن تلك الوقائع لم تقتصر آثارها على وقتها وأهلها وحسب ، ولكنها امتدت إلى وقتنا هذا ، ولا زال الشيعة ، وهم قطاع من المسلمين لا يستهان به ، ينتصرون للامام علي في كل خلافته التاريخية ... ، قلت لصاحبي : وقد بلغ الغضب مني كل مبلغ : ... هذه الموضوعات التي تريد بحثها ، دع أمرها للعلماء الذين يعلمون أكثر منا حقيقة هذه الشبهات التاريخية ... وإنني لأن أنفي وقوع تلك الفتن تاريخيا وأنسب الكذب للمؤرخين أهون عندي من أن أدين صحابيا ، فلاذ صاحبي بالصمت ، لا أدري إذا ما كان صمته اقتناعا بما قلته أم مداراة لي وتاجيلا للنقاش ".

 

الشعور بالحاجة الماسة إلى البحث : يضيف الأخ محمد علي : " ثم عدنا إلى العاصمة ، وهناك صادف أن التقيت بالمجموعة التي كانت تهتم بالشيعة ، والفيت أنهم يصرون على أن هناك حلقات مفقودة في التاريخ الإسلامي الذي يجب أن يقرأ بعيدا ، عن العواطف والآراء المسبقة ، فدارت بيني وبينهم حوارات عديدة ، حتى تبين لي أنني بحاجة ماسة إلى إماطة اللثام عما خفي علي من حقائق ، فقررت مع فتية إمتلكوا الشجاعة الكافية أن نخوض غمار البحث وأن نستسلم لنتائجه مهما كانت قاسية ومهما اصطدمت بالموروث وتعارضت معه.

 

عقبات امام البحث والتحقيق : وعقدنا جميعا العزم على مواصلة البحث والتحقيق ، وكانت المشكلة الأساسية التي تعترض طريقنا هي عدم وجود المصادر الشيعية وكان بين أيدينا مجموعة من الكتيبات الصغيرة ذات الطابع الثقافي ولكنها لم تكن تفي بالغرض إذ لا تتعرض كثيرا للمسائل الخلافي ، ومرت شهور ونحن بين مندفع يريد بابا يلج منه إلى عالم التشيع وآخر يتردد في حيرته يتمنى أن لو يزول الشك عنه فيعود إلى ما كان عليه من مذهب ومعتقد ، إذ ما أقسى أن تتزلزل ثوابت الانسان وتنحل سواري يقينه وهو يبحث عن الحقيقة ولا يجد اليها طريقا ، فحاولنا الاتصال ببعض من يحتمل اطلاعه على مسائل التاريخ والعقائد ، الا أن أحدا من الذين لجأنا اليهم لم يكن مستعدا للسماع منا والاجابة على تساؤلاتنا ، ومن ناحية أخرى فقد كنا فى حاجة إلى السماع من الشيعة والاطلاع على عقائدهم أكثر من حاجتنا لسماع خصومهم.

 

بداية الالمام بمكانة أهل البيت (ع) : وفي تلك الفترة تنبهنا ، عن طريق بعض الكتيبات الشيعية التي كان طابعها ثقافيا وتربويا إلى جهلنا بجانب كبير ومضىء من التاريخ الإسلامي يمثله رجال ونساء ولِدوا من رحم الرسالة وتفرعوا عن شجرة النبوة ونشأوا في مهبط الوحي ، رجال طالما نشدناهم وبحثنا عنهم ، يقينا من أن الرسالة لابد لها من أمثالهم ، وعندما غيبتهم عنا المؤامرة قمنا باسقاط خصائصهم على غيرهم ، وتوسمنا العصمة في من تعوزه العدالة ، والعلم فيمن أعماه جهله ، ياله من وهم نسجناه على منوال أسلافنا ورحنا نقدسه تدينا ووفاء ، تلك الكتب كانت نوافذ فتحتها الأقدار لنا على أفق جديد من آفاق المعرفة والرشاد فكان لابد لنا أن نمضي قدما لاستكشاف المجهول وازالة الحجب التي اسدلها المضلون على وجه الحقيقة ".

 

التمسك بالدعاء للخروج من الحيرة : يقول الأخ محمد علي : " وهنا كانت الحاجة ملحة إلي من يمسك بأيدينا ويكون دليلا لنا فى متاهات التاريخ ومنعطفاته ، فتوجهنا إلى المولى جل وعلا بالدعاء ضارعين ، وفي مثل وضعنا ذاك يكون الدعاء هو السبيل الأوحد للخروج من دوامة الشك والحيرة ، وأي نور يكون لنا في تلك الظلمات إن لم يجعل الله لنا نورا ، ولم يمض الا القليل حتى استجاب الله لدعائنا وجاء الفرج من حيث لم نحتسب ، ويضيف الأخ محمد علي : وهنا لابد أن أؤكد أني وحتى ذلك الوقت لم أكن أسعى لاعتناق مذهب جديد أو للتخلي ، عن ثوابت المذاهب السنية في العقائد والفقه والتاريخ ، وكل الذي أردته هو التخلص من الشبهات التي طرأت لي بعد أن أثار الاخوة أمر الخلافات التي كانت بين الصحابة بُعيد وفاة النبي (ص) ، ومن جهة أخرى أردت الحصول على المزيد من المعلومات والحقائق حول أهل البيت الذين خلت مناهجنا الدراسية من ذكرهم مع أنها حوت الغث والسمين من السير والأخبار ، وهذا في حد ذاته كان مثار تساؤل كبير ".

 

اللقاء الأول بشخصية شيعية : استجاب الله دعاء هذه الثلة الطيبة فقيض لهم رجلا جاء إلى السودان من ايران يدعى الشيخ حسين الكربلائي ، وكان يرغب في التعرف على التجربة الديمقراطية الثالثة في السودان ، وتبادل الرؤى والأفكار مع بعض القادة الإسلاميين حول قضايا التحالفات والتكتلات التي كانت سمة التجربة في بدايتها ، فيقول الأخ محمد علي : " ساقت الأقدار الشيخ حسين الكربلائي إلينا فنزل بالفندق الذي أعمل به ، فوجدت في نفسي رغبة في التعرف عليه ، فقمت ذات ليلة بالجلوس عنده في صالة الفندق وهو يشاهد النشرة الأخبارية المسائية ، فعلقت على خبر ورد بالنشرة ، وكان هدفي أن استدرجه حتى افتح معه باب الحوار ، وبالفعل حدث ذلك ودار بيننا حوار هادى فبهرني سعة أفقه ودقة معلوماته ، ثم خطر لي خلال حديثه أنه قد يكون شيعيا ، فسألته بعد التردد : هل أنت شيعي ، وتوقعت أن يخرجه سؤإلى عن هدوئه واتزانه ، وكأني عندما سألته كنت أقول له : هل أنت زنديق ، ولكنه أجاب ودون أن يطرف له جفن : نعم انا شيعي ، فقلت في نفسي : سبحان الله ، يقولها غير متحرج ولا متأثم ، أيحسب أنه يحسن صنعا ".

 

خشية الحوار مع الشيعة : ثم توجه الشيخ إلى الأخ محمد علي قائلا : وماذا تعرف أنت عن الشيعة ، قال الأخ محمد علي : وما عساني أعرف عنهم غير مفارقتهم للسنة والجماعة وجرأتهم على الصحابة وغلوهم في تقديس الامام علي ، ثم أردف لقد اطلعت مؤخرا على آراء الشيعة ومعتقداتهم ومواقفهم من الصحابة وكنت آمل أن التقي بشيعي حتى أسأله عن صحة ما ينسب اليهم ، ويقول الأخ محمد علي : قلت ذلك أنا أحاول جاهدا أن أخفي عنه خليطا من الأحاسيس التي اجتاحتني في تلك اللحظة وأنا التقي وجها لوجه بشيعي لأنني كنت أخشى أن يثبت لي بالأدلة والبراهين أن كل الأمور التي اعتقد بها ليست الا أباطيل وأوهام ، لكنني حرصت أن أبدو أمامه متماسكا ومعتدا بانتمائي المذهبي فالمرء مهما كان هو ابن مذهبه ، وإن جاز له الاعتراف بينه وبين قومه ، باهتزاز الثقة فيه فليس له أن يكشف ذلك لأهل المذاهب المناوئة انطلاقا من روح العصبية هذه ، ثم سمحت لنفسي أن أحادثه بلهجة فيها شيء من النصح والكثير من الاستهجان ، فنحن ننتمي إلى الأصل ، إلى السنة والجماعة وغيرنا مفارق لهذا الأصل.

 

الاسلوب الرائع في الحوار : يقول الأخ محمد علي : وكان الشيخ حسين الكربلائي أدرك عمق الأزمة التي أعيشها ، فتجاهل الهجوم الذي واجهته به وأخذ يحدثني عن العقل ودوره والمنهج السليم في قراءة التاريخ وخطر التعصب وخطأ التقليد في العقائد ، حتى كاد ينسيني الموضوع الأساسي ، وللحقيقة فقد استطاع بلباقته أن يمتص حماسي وينتزع تعصبي ، فلم املك الا أن أصغي إليه ، وبعد أن فرغ من حديثه حول مناهج البحث واُصول الفكر ، لم يبد أي حرص على استدراجي أو تغيير قناعاتي ، وكان خلاصة الحديث نصحه لي أن أبحث عن الحقيقة بتجرد وأن أحرر عقلي من أسار التقليد والموروث.

 

البحث في طي الكتب : يضيف الأخ محمد علي : لم أكن أتوقع أن يكون للقائنا ذاك ما بعده ، فهو نزيل بالفندق يغادره بين يوم وليلة فلا تبقى منه الا ذكرى هذا اللقاء المثير ، لذلك سألته أن يعد لي قائمة بالكتب الضرورية للبحث التاريخي والعقائدي ، فقال : هناك كتابان يعد كل منهما دليلا كاملا لمراجع البحث ، كما يعدإن من أبقوي ما كتب حول الإمامة والمذاهب أحدهما ( المراجعات ) للسيد شرف الدين ولا أتوقع وجوده بالمكتبات السودانية ، والثاني كتاب ( الغدير ) للعلامة الأميني وهو موجود عند مكتبة الدار السودانية للكتب.

 

تدخل الألطاف الإلهية في الأمر : وهكذا ودعته وقد عقدت العزم على شراء كتاب ( الغدير ) ، ولم يهنئني المنام في ليلتي تلك ، إذ كان ذهني يسترجع محاور الحوار الذي دار بيننا مرة بعد مرة ، وقد شغلني أمر الكتاب الذي تذكرت أنه الكتاب ذاته الذي أطلع صديقنا طاهر على أحد أجزائه فدخل وأدخلنا معه في هذه الطرق الشائكة التي لا تؤمن عقباها ، في صباح اليوم التالي وبينما كنت أتأهب للذهاب إلى المكتبة لشراء كتاب الغدير كان ساعي البريد يسلم إلى موظف الاستقبال مجموعة من الرسائل بينها مظروف مرسل عبري إلى أحد أصدقائي وكان على اتصال بمؤسسة البلاغ الايرانية التي ترسل له كتيبات ثقافية صغيرة ، غير أن الأمر كان مختلفا هذه المرة فالمظروف أكبر من المعتاد ، وكالعادة فضضت الظرف فورا لأعرف الكتاب الذي بداخله ، وكم كانت المفاجأة كبيرة عندما أخرجت كتاب ( المراجعات ) من المظروف ، بصراحة إنتابني شيء من الخوف في تلك اللحظة ، فالحدث لم يكن بكل المقاييس عاديا ، في الليلة السابقة تجمعني الأقدار بعالم من علماء الشيعة وكنت من قبل أبحث عن أحد عوامهم ثم أسمع بكتاب ( المراجعات ) للمرة الأولى فأجده في طريقي وأنا ذاهب لشراء الغدير فلم يخامرني شك في تلك اللحظات أن أمرا ما له علاقة بالغيب يتحكم في اتجاه بحثنا ، فليكن ذلك هو توفيق الله وهدايته التي يمن بها على من يسعى اليها ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ).

 

مع كتاب المراجعات : أخذت أتصفح الكتاب وأتنقل بين عناوينه ، فما من سؤال راود ذهني قبل ذلك الا وكان الكتاب قد تناوله بشكل أو بآخر ، وكأنه كتب لأمثالي ممن تبينوا ، في جانب من الطريق ، أن هناك سبيلا أخرى ربما كانت هي الأقرب ، بل الأصوب عدت بالكتاب إلى غرفتي وقد توقفت تلقائيا كل برامجي وأعمالي ، وتعطلت الهموم الا هم واحد ، هو اكتشاف الحقيقة ، شرعت في القراءة ، وكان الشيخ سليم البشري يجادل عني ويطرح أسئلتي بل يطرح ما هو أشمل وأعمق منها فيرد عليه السيد شرف الدين الموسوي بثقة العارف ويقين المؤمن ، وأنا بين هذا وذاك تقذفني موجة من شك إلى أخرى من يقين ثم يحدث العكس ، ويخامرني الشك حول الشيخ البشري وبساطة تعاطيه مع مناظره إذ يتنازل دون تردد عن موقفه كلما واجهه الآخر بالحجج والأدلة ، وكأني وددت لو أنه يماري قليلا أو يبدي اصرارا على رأيه، فأراجع نفسي وأقول ماذا يضير الرجل إن كان موضوعيا ومخلصا للحقيقة، فهو بذاك إلى القوة أقرب منه الضعف ، إذ لا يجد حرجا في الاعتراف للطرف الآخر بقوة الحجة وسلامة الموقف وصحة المعتقد حتى ولو كان في ذلك اعتراف بالعكس ، كنت أطوي الصفحات طيا ، في شبه ذهول ، عن الوقت وما يجري من حولي ، وعندما كان وقت صلاة العصر كنت قد بلغت من الكتاب مداه وقلبت آخر صفحاته ، ولقد قرأت من قبله الكثير ، وتأثرت ببعض ما قرأت حتى اتخذته مرجعا لحركتي وسكوني ، بيد أن ( المراجعات ) كان شيئا آخر وساعات من نهار قضيتها متنقلا بين صفحاته أجبرتني على العودة من أول الطريق ، أرغمتني على وضع كل الماضي وكل الموروث على صدر علامة استفهام كبيرة.

 

التأثر الشديد بكتاب المراجعات : ويضيف الأخ محمد علي : والآن علي : أن أرى ذلك الذي أوصاني بهذا الكتاب ، لأقول له إن الذي جمعني بك قد وضع بين يدي كتاب ( المراجعات ) الذي عهدي باسمه البارحة ، فمن أنت ، وماذا تريد ، وكيف أتيت إلى هنا ، ومن ذا الذي أرسلك إلينا ، أتراك تعي أو تقصد ما تحدثه في حياتنا ... ، كل تلك الأسئلة كانت تتشابك في ذهني بينما كنت أطرق باب غرفته بيد مرتجفة ، مددت إليه الكتاب ، تناوله قائلا : نعم إنه هو ، من أين أتيت به ، فأخبرته بقصته ، ثم سألني عن رأيي فيما قرأت ، فقلت له : أرجعني ( المراجعات ) إلى نقطة الصفر ، محا من ذهني وروحي كل الماضي ، فما أحوجني الآن إلي من يمسك بيدي ويخرجني مما أنا فيه ، وما أحسبه الا أنت ، فرد بكل تواضع : استغفر الله ، وهل أنا وأنت الا سواسية في طلب الحق والبحث عن الهدى ، ومع ذلك لا بأس في التحاور والتباحث فـ ( إن أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله ) ، عندئذ حدثته ، عن المجموعة التي أشاركها البحث والتنقيب عن الحقيقة ، فبدا متحمسا لرؤيتهم ، وكنت بدوري أتعجل لقياهم حتى أزف اليهم الأخبار الجديدة وأطلعهم على ( المراجعات ) ، وهكذا أطلعتهم على المستجدات التي كانت في نظرهم فتحا وتوفيقا الهيا ودليلا على سلامة التوجه واستقامة طريق البحث.

 

لقاءات المجموعة مع الشيخ : وفي أول لقاء للمجموعة مع الشيخ ، كان هناك احساس مشترك يغمر الجميع ، الأحساس بآثار رحمة الله ودلائل الاستجابة للدعاء ، واحساس آخر بالألفة تجاه ذاك الرجل الذي كان بمثابة يد امتدت لغريق ، انتظمت جلساتنا معه صباحا ومساء ، طيلة شهر كامل ، فتحنا خلاله كل الملفات المغلقة ، تنقلنا بين أطلال الماضي وبحثنا تحت الأنقاض ، أيقظنا الكثير من الحقائق النائمة في طي النسيان ، تارة لا نملك الا أن نسلم له ونوافقه الرأي ، وتارة نعارضه ونقف واياه على طرفي نقيض ، ونثير الشبهات ونطرح الأسئلة ، كنا ، كمجموعة ، نتنفق في بعض الأحيان ، وأحيانا أخرى نختلف ، عندما ينضم بعضنا إلى جانبه ويعارضه الآخرون ، وهكذا كانت الرؤية تزداد وضوحا يوما بعد يوم ، وقد تصدرت القضايا التاريخية قائمة الموضوعات المثارة ".

 

اسلوب الشيخ في طرح الأبحاث : يقول الأخ محمد علي : " كان الشيخ يتحاشى التطرق إلى المسائل التي من شأنها استفزاز مشاعرنا ، وبالمقابل يسهب في الحديث عن أهل البيت فلا نمل ولا نسأم ، بل نطالب بالمزيد ، إذ كنا لا نعرف شيئا عنهم ، ومن لم يعرف أهل البيت لم يعرف شيئا من الإسلام ، شيئا فشيئا بدأنا ندرك أن الكثير من الحقائق المكتشفة لا يمكن قبولها الا بعد التخلي عن مسلمات قديمة ، وأننا بصدد التوصل إلى دعائم جديدة يقوم عليها الدين ، وهي أعلى وأسمى من تلك التي توهمنا أن الدين قائم بها ، بتعبير آخر ، لقد بتنا ، على ضوء تلك المستجدات ، مطالبين باتخاذ موقف فاصل ، ولا مجال للتمييع ، سارع بعضنا إلى اجتياز هذه العقبة النفسية واستطاع أن يتخطى الماضي ومخلفاته ، والتقليد وقيوده ، فلم يعد يتردد في القبول بنتائج البحث ، مهما كانت قاسية ومريرة ، ولكني ومعي آخرون ، توقفت كثيرا وفكرت طويلا لعلي أوفق بين هذا الولاء الذي أخذ يتجذر في قلبي لأهل البيت ، وبين ولاءات سابقة ، انتفت عوامل بقائها ، ولم يبق منها سوى بعض الرواسب النفسية ، ولكن هيهات ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) ، ولا مكان للغير في نفس بات يعمرها الحب والولاء لأهل البيت ، في نهاية المطاف ، وبعد شهر من الحوار الدائم ، والتحقق من صحة الأدلة التي أوردها الشيخ في المصادر السُنية ، كانت الرؤية قد اتضحت تماما ، وزالت الشبهات ، وتخطينا الحواجز النفسية والعاطفية ، ولم يبق الا أن نتعرف إلى الدين من جديد بعد أن اكتشفنا الطريق الموصل له ، وحددنا الجهة التي منها نأخذ ديننا ، عندئذ قرر الشيخ الرحيل ، تاركا خلفه خمسة مستبصرين وآخرين على طريق الاستبصار ، يكونون فيما بعد نواة للتشيع في السودان ، وبداية لحركة استبصار واسعة النطاق تشمل ، في غضون عشرة أعوام ، كافة أنحاء السودان ، وتؤسس العديد من المؤسسات الثقافية التي تضطلع حتى الآن بدور مشهود في تصحيح المسار الفكري والعقائدي الذي تعرض عبر القرون لمؤامرات الطمس والتحريف.

 

مؤلفاته :

1 ـ " ودخلنا التشيع سجدا " : صدر في طبعته الثانية عن دار الخليج العربي للطباعة والنشر سنة 1422 هـ ، كتاب يعرض تجربة جماعية في الاهتداء إلى مذهب أهل البيت (ع) ـ ذكرنا طرفا منها أعلاه ـ وكذلك يبحث في الشبهات المنهجية التي تتعرض طريق هذا الاهتداء مع الجواب عليها وفقا لما يقوله أهل البيت (ع) كما يبحث في الإمامة والخلافة ويعرض الحوادث التاريخية التي مر بها المسلمون بعد وفاة النبي (ص).

ويحتوي الكتاب على ستة فصول :

الفصل الأول : في الطريق إلى حصن الولاية.

الفصل الثاني : شبهات منهجية ، الإمامة في القرآن ، أهل البيت ، الوصاية ، عدالة الصحابة.

الفصل الثالث : التبشير بالإمامة مع النبوة.

الفصل الرابع : الإمامة والخلافة.

الفصل الخامس : السقيفة الحقبة الثالثة.

الفصل السادس : وعاد الأمر إلى نصابه.

 

وقفة مع كتابه : " ودخلنا التشيع سجدا " : تواجه الباحث السني شبهات منهجية عندما يدرس نظرية الإمامة التي ، يقول بها مذهب أهل البيت (ع) إذا أراد الاقتناع بها والاعتقاد بمحتواها خصوصا بعد الشك بما تقوله مدرسة الخلفاء في هذا المجال ، وذلك لرغبة هنا ببديلا يقينيا لا تعتريه الشبهات ، فتراه يعيش في صراع فكري عميق ونزاع عقائدي شديدا نتيجة تراكم شبهات الباطل خلال ما يربو على أربعة عشر قرنا من عمر الإسلام ، يتعرض الكاتب في هذا الكتاب إلى قصة استبصاره واعتناقه لمذهب أهل البيت التي تقدم طرف منها ، ثم يذكر بعضا من الشبهات المنهجية التي واجهته في مرحلة التحول من المذهب السني إلى المذهب الشيعي ، ويوضح أن الإمامة كانت موضع اهتمام النبي (ص) منذ بدء الدعوة ، بل أن العناية الإلهية كانت تهيء الامام علي (ع) حتى قبل الدعوة لهذا المنصب حالها حال اعدادها للنبوة والدين الإسلامي كَكل ، فلا يستطيع أحد أن ينكر العنايات الإلهية بالنبي الأكرم (ص) قبل زمان نبوته ، وهكذا كان الامام علي (ع) محوطا بها في ذلك الزمان أيضا حتى قال أهل السنة : كرم الله وجهه ، ثم يستعرض الواقع التاريخي لقضية الإمامة بعد وفاة الرسول (ص) من يوم السقيفة المشؤوم إلى أيام حرب صفين ، التي كانت امتدادا واحدا سعى فيه مغتصبي الخلافة وأنصارهم إلى اطفاء نور الإمامة الملازم لنور النبوة وأصل الدين.

 

شبهات منهجية : الشبهة الأولى : لا يوجد في القرآن نص صريح على ولاية أهل البيت (ع) أو آية لا يعتريها الشك في خلافة الامام علي (ع) وإنما هناك آيات تنوه بفضلهم وتحث على مودتهم يؤولها البعض خطأ بالإمامة وولاية الأمر ، ولو كان الأمر صريحا لما اختلف اثنان فيه مناقشتها :

 

1 ـ القرآن يتحدث عن قصص الماضين للاعتبار بها في بناء الحاضر والمستقبل ولا ينقلها فقط للتسلية ، والرسالات السابقة تمهيد للرسالة الخاتمة لأن القرآن ينظر للبشرية باعتبارها كيانا واحدا يجري على آخرها ما جرى على أولها من السنن الإلهية الثابتة ، ومن هذه السنن بل من أهمها سنة الاصطفاء الإلهي للقادة ، حيث نلاحظ الطرق المتواصل عليها في القرآن وذلك برفع شأن ذرية الأنبياء والتنويه بهم باعتبارهم صفوة الله وخاصته وأقدر الناس على تمثيل خلافة الله في أرضه ، وأهل البيت (ع) وإن لم يذكروا مباشرة في القرآن الا قليلا ، الا أن القرآن ما ذكر غيرهم من ذريات الأنبياء الا من أجلهم ، وإذا كان رب العزة قد اتخذ من آل إبراهيم وآل عمران أنبياء فقد اتخذ من آل محمد (ص) أئمة ، والإمامة أعظم درجة من النبوة وقد نالها إبراهيم (ع) النبي والرسول والخليل بعد هذه الدرجات وبعد ابتلاء خاص.

 

2 ـ لا فرق في الأهمية بين أحكام القرآن وأحكام السنة ، وقد أوكل الله إلى نبيه أمر تبليغ الكثير من الأحكام المهمة التي لا يمكن التعرف عليها من ظاهر القرآن ، وقد قام الرسول (ص) بتفصيل كل ما ورد في القرآن مجملا ، فالصلاة ـ مثلا ـ ورد الأمر بها في القرآن مجملا ولولا ما فصله الرسول من شأنها لما عرف عدد الصلوات ولا كيفية أدائها ، وليس لأحد أن يقول : كان ينبغي للقرآن أن يبين جميع تفاصيلها لأنها عماد الدين ، ولقد صرح النبي (ص) بما لا يدع مجالا للشك في أمر ولاية أهل البيت (ع) وتواترت عنه الأحاديث في ذلك وتضمنتها الموسوعات الحديثية لمختلف المذاهب.

 

3 ـ لو أن الإمامة لم يقررها القرآن كسنة الهية ، ولم يدع رسول الله (ص) إلى أهل بيته أئمة يهدون بأمر الله من بعده ، ولو أن اتباع مذهب أهل البيت لم يقولوا بامامتهم ، لو أن كل ذلك لم يكن ، لكان ضروريا بحكم الفطرة أن نفترض ذلك النظام كما افترضنا وجود الله وترقبنا رسله ، فأمر الدين لا يستقيم أبدا الا بنبي أو وصي نبي ، ولابد من قائم لله بالحجة في كل زمان كما يقول الامام علي (ع) في نهج البلاغة : " لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة ، ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا ".

 

الشبهة الثانية : الشورى ثابتة في القرآن والسنة كنظام للحكم والولاية بعد رحيل النبي (ص) ، وهذا ما فهمه الصحابة من بعد النبي وعملوا به ، فكان العهد الراشدي نموذجا نادرا للشورى وحرية الاختيار على أساس من القيم والمصلحة العامة للإسلام والمسلمين ، وهي خير من النظام السياسي القائم على الوراثة التي تعتبر من أسوأ الأنظمة في التاريخ ، وهذا ما توصلت البشرية إليه مؤخرا وبصورة غير مبرأة من العيوب فيما سمي بالديمقراطية.

 

مناقشتها : ان أمر الإمامة ليس مسألة توارث للسلطة أو اتباعا لمعايير الأحساب والأنساب ، بل هو اصطفاء الهي جريا علي سنة الله في الماضين التي لا تتبدل ولا تتحول ، وهذا الاصطفاء له مقومات ولم يكن اختياره سبحانه وتعالى للأئمة عشوائيا ، وإنما وفق معايير التفاضل التي بينها للناس وحضهم على التنافس فيها ، فكان لابد أن يكون قادة المسيرة هم الذروة في الكمال البشري ، وهذه المواصفات هي مما لا يدركها في العباد الا ربهم ، ومن هنا كان تنصيب أئمة البشرية وقادتها جعلا الهيا علي أساس الاجتباء والاصطفاء ، وهذا لا يتعارض مع القول أن الله يؤيد أصفياءه ويعصمهم تمكينا لهم من تبليغ رسالاته وتولي أمر عباده ، ولو أن الخيار كان قد ترك للناس ليتخذوا من بين أنفسهم أئمة ، لاختاروا وفق معايير خاطئة ولمالت بهم الأهواء عن الحق ، وحادت بهم العصبيات عن سواء السبيل ، وأما ما ادعي من شورى فهي ما أتي بها الا لتوجيه ما حصل بعد وفاة النبي (ص) من اقصاء للخلافة عن أولي الأمر الحقيقيين ، والا فهي نظريا تحتاج إلى ولي أمر حسب القرآن الكريم ، وعمليا ما كانت الا تنصيب بعد تنصيب ولم يدعها الخلفاء أنفسهم.

 

الشبهة الثالثة : ان حال الأمة الإسلامية يختلف عن أحوال الأمم من عدة جهات :

1 ـ انقطاع الوحي بعد النبي محمد (ص) وليس هناك أنبياء بعده فلا اصطفاء كما في الأمم السابقة فكان لابد أن يتصدى الناس لولاية الأمر لسد الفراغ فيختاروا أحدهم لخلافة النبي عملا بقوله تعالى : ( وأمرهم شورى بينهم ).

2 ـ لقد بلغت الأمة الإسلامية من النضج بحيث لا تحتاج إلى وصاية بخلاف الأمم السابقة ، والدليل هو توقف الوحي وانقطاع بعث الأنبياء.

3 ـ القرآن لا يمكن تحريفه بينما حرفت الكتب السماوية السابقة فلا حاجة إلى أوصياء يقومون الانحراف.

 

مناقشتها :

1 ـ ان اصطفاء الأئمة من آل البيت (ع) قد تم في زمان الوحي على لسان النبي (ص) أيام تنزل القرآن وبهذا الاصطفاء اكتملت الرسالة وتمت النعمة.

2 ـ ادعاء نضج الأمة ادعاء التوى عنق الحقيقة مرات ومرات لأجل اثباته ، ومع ذلك لم يثبت منه شيء ، فالأمة تحتاج إلى وصي يدير شؤونها وهذا ما أثبتته الاحداث بعد وفاة النبي بدءا من السقيفة ومرورا بكل الفتن التي لفت الصحابة كقطع الليل المظلم ، ومن ثم قتل ابن بنت النبي (ص) الحسين بن علي (ع) الامام المعصوم ، ومرورا أيضا بكل عصور الجور والطغيان والفساد في القرون التالية ، وانتهاء بما نحن عليه اليوم.

3 ـ نعم .. لم يحصل تحريف لفظي في القرآن ، لكن قد حصل تحريف معنوي ناشيء عن الرأي واتباع المناهج الخاطئة في التفسير والاعتماد على الأحاديث الموضوعة والتزوير في أسباب النزول واتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، كل ذلك أدى إلى افراغ القرآن من محتواه فلم يبق الا رسمه ، والتاريخ يقول : أن الأمة قد ارتكبت في حق كتابها كل الذي حذرت منه ، وصار الكتاب في مختلف العصور أداة طيعة بيد الطغاة وأئمة الجور يصرفون آياته وفق ما تمليه مصالحهم وأهواؤهم.

وقد افترقت الأمة إلى عشرات الفرق العقائدية والفقهية والكل يزعم صدوره عن القرآن ووروده إليه ، ولقد ضلت الأمة ـ والقرآن معها ـ يوم أن فصلت بينه وبين الثقل الآخر ـ أهل البيت ـ بينما كان النبي (ص) يدعوهم للتمسك بهما معا حتى لا يضلوا.

 

الشبهة الرابعة : علي كرم الله وجهه هو الرابع : في ترتيب الصحابة ، ولا أحد من المسلمين ينكر فضائله ، على أن ذلك لا يعني تقديمه على الثلاثة الأوائل ( أبو بكر وعمر وعثمان ) ، كما أن النبي (ص) لم يخصه بشيء أكثر مما خص به خلفاءه ، أما ما يعتقده الشيعة في علي فهو غلويا يأباه الدين ، خاصة إذا عرفنا أن فريقا من الشيعة يرفعونه إلى مرتبة الالوهية ، حتى أنه في أيام خلافته عاقب بعض المغالين المؤلهين له بالاحراق بالنار.

 

مناقشتها : لقد نزل اتباع مدرسة الخلفاء بمقام الامام علي (ع) كثيرا فجعلوه رابع الخلفاء والصحابة ولم يقبل حتى هذا أمثال ابن عمر فنزل به دون الرابع ، والواقع ان الامام علي (ع) له من الكرامات والمناقب مما جعله أن يكون نفس النبي (ص) باختيار رب العزة في آية المباهلة.

وأول كراماته مولده الشريف في جوف الكعبة فكان أول وآخر من يولد فيها ، وقد رباه النبي الأكرم (ص) ردا لجميل أبي طالب وفاطمة بنت أسد اللذين ربياه في صغره ، وهكذا قدر الله لعلي : أن يلازم خير خلقه ويتتلمذ لدى معلم البشرية وأستاذها الأعظم نبيه محمد (ص) ، فكان إسلامه لم يسبق بشرك كما حصل للآخرين ، فكيف يقارن به غيره فضلا عن أن يقدم عليه، وهو أحد الدعائم الأساسية التي قام الدين متكئا عليها ، ولكل ذلك كان تبشير النبي (ص) بامامته يسير جنبا إلى جنب مع تبليغ أركان الدين الأخرى ، ولذلك أيضا ضاق المنافقون ذرعا وحسدوه فعملوا على منع تنفيذ وصية النبي (ص) فاستهدفوا قداسة النبي (ص) أيضا.

 

الشبهة الخامسة : القول بالوصية ، وبموقف متميز لأهل البيت ، وخلافة الامام علي للرسول من دون فاصل ، كل ذلك ينطوي على اتهام صريح لجميع الصحابة وقد بايعوا خلاف من استخلف نبيهم ، وبالتالي الطعن في عدالة الجميع بما فيهم كبار المهاجرين والأنصار ، بل والخلفاء الثلاثة.

وعدالة الصحابة ثابتة باتفاق الجميع ، وقام عليها الدليل من القرآن والسنة ، فلا يجوز الطعن فيهم لأنا عرفنا الدين والحق من خلالهم ، وأضف إلى ذلك أن القدح فيهم هو قدح في امكانيات الرسول (ص) وقدراته التربوية التي بذلها معهم ، مع أن الثابت هو إن النبي (ص) أعظم مرب شهدته البشرية وأنجح معلم في التاريخ.

 

مناقشتها :

1 ـ لا دليل للقائلين بعدالة كل الصحابة الا التأويل الخاطيء لبعض آيات القرآن وتجاهل البعض الآخر ، والاعتماد على المفتريات من الروايات ، وتخصيص الأحاديث التي تذكر الصفات السلبية لبعضهم والتي تتنبأ بردة بعض وانقلابهم وانحرافهم من الخط.

2 ـ الدور المفترض للصحابة بعد النبي (ص) كنقلة لأحكام الدين عنه انما يرد إذا تحقق افتراض آخر ، هو وفاة النبي (ص) دون وصية ودون تعيين لمن يشغل مكانه بعد رحيله.

3 ـ القرآن ذكر كثرة المنافقين مع النبي (ص) كما سلط الضوء على سيرة أصحاب الأنبياء السابقين وذكر نقاط ضعفهم ، وأورد قصصهم بتفاصيلها ليقرر حقيقة أن العدالة ليست ملازمة للصحبة ، وأن ما جرى لأصحاب الرسل السابقين يجري مع أصحاب رسولنا الأعظم (ص) حذوا النعل بالنعل وحذوا القذه بالقذة ، وبناء على ما تقدم نستطيع القول : أن الصحابة بشر اعتياديون خصهم الله بصحبة نبيه الأكرم ، فمنهم من أحسن الصحبة وأخلص الولاء ، ومنهم من أضاع الفرصة منذ البداية ، ومنهم نكث غزله من بعد قوة أنكاثا.

وبالتالي ليس غريبا أن يكون المخلصون هم الأقلون عددا ، وأن تنقلب الأكثرية على الأعقاب وتتجاهل وصية النبي (ص) أو تقوم بتأويلها بما يتفق مع مصالحها وأهوائها ، ثم تزعم أنها ما أرادت بما فعلت الا اصلاحا.

 

امامة الامام علي (ع) : لقد بشر النبي (ص) منذ أوائل الرسالة بامامة الامام علي (ع) من بعده ، فقد أنذر عشيرته الأقربين استجابة لأمر الله فعرفهم برسالته وعرض على من يؤازره منهم أن يكون له أخا ووصيا وخليفة من بعده ، فأبى القوم الا علي ، هنالك توجه النبي (ص) اليهم بقوله : " إنه أخي ووزيري ووصيي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا " ، ومن هنا يظهر أن اهتمام النبي (ص) بمستقبل الرسالة اقترن منذ الوهلة الأولى بالاعلان ، عن نبوته ، ثم استمر في مختلف مراحل الدعوة إلى أن خفقت أجنحة الموت فوق رأسه الشريف ، ويدل على ذلك أحاديث كثيرة منها : حديث المنزلة ، وحديث الغدير ، ورزية يوم الخميس ، حيث أراد أن يكتب كتابا لا تضل الأمة بعده أبدا فمنعه عمر ، وقال : أنه يهجر.

 

وبعد أن لبى رسول الله (ص) نداء ربه ، انقلب القوم على أعقابهم واغتصبوا الخلافة والحكم ، واضطر الامام علي (ع) أن يساير القوم حفاظا على أصل الدين ـ رغم مأساة السقيفة وما جرته على أهل البيت والاُمة من ويلات أولها : ما أصاب الزهراء (ع) وآخرها لم ينته بكربلاء بل استمرت واستمرت إلى يومنا هذا ـ فكان يهدي الناس وهو خارج الحكم وينصح الخلفاء في مواقع الخطر على الإسلام أو في مجال تبيين أحكامه وتدعيم أركانه.

 

شورى الستة : يلاحظ في هذه القضية أن الامام علي (ع) دخل فيها وهو يعلم سلفا أن النتيجة محسومة لغير صالح الإسلام والإمامة ، لكنه أراد أن يوضح للناس بطلان دعوى القوم ، فعندما اشترط عليه ابن عوف الذي حصل على امتياز الحسم في قضية الشورى من عمر الالتزام بسيرة الشيخين رفض ذلك مبينا بطلان سيرتيهما ، كما أراد أن يبين تناقض قول عمر وفعله ، لأن عمر قد أهله للخلافة في قضية الشورى ، وكان من قبل يقول : ان النبوة والخلافة لا تجتمع في بيت واحد ، وبعد أن رست الخلافة بالشورى العمرية على الشاطيء الأموي خرج علي (ع) ليخاطب الناس بقوله : " أيها الناس لقد علمتم إني أحق الناس بهذا الأمر من غيري ، أما وقد انتهى الأمر إلى ما ترون ، فوالله لاسالمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن جور الا علي خاصة التماسا لأجر ذلك وفضله وزهدا فيما تنافستموه من زخرف ".

 

تصدي الامام علي (ع) للحكم : يلاحظ المرء عندما يطالع لأول مرة وقائع البيعة التي تمت للامام علي (ع) في أعقاب مقتل عثمان ، إن الامام ، قال للناس : " دعوني والتمسوا غيري ، وأنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا " ، ويتساءل كيف تقول الشيعة أن الإمامة وولاية أمر المسلمين من مختصات علي وأهل بيته بالنص ، وإنها لا تنبغي لغيرهم ، بينما يرد الامام علي الأيدي التي امتدت لتبايعه ، وفي مقام الجواب نقول : أن الإمامة ـ كما تقدم ـ لا تكون الا عن طريق الاصطفاء والاجتباء الرباني شأنها في ذلك شأن النبوة ، وليس على الناس الا التسليم والطاعة ، ويبقى الامام اماما حتى وإن لم يبايعه أحد ، إذا فالامام علي (ع) كأن يدفع عن نفسه الإمارة والحكم لا الإمامة ، فهو لم يزل اماما واجب الطاعة منذ أن مات النبي (ص) ، لم يقدح في امامته إن تولى الحكم غيره ، ويذهب البعض إلى أن عليا (ع) انما تمنع أول الأمر حتى يلتف الناس حوله مع علمه أنهم غير تاركيه ، ولو تركوه بناء على طلبه " دعوني والتمسوا غيري " لا سقط في يده.

 

ونقول : ان مثل هذه المناورات والأساليب السياسية قد تصدر عن غيره (ع) أما ان تصدر عنه ، فذاك ما يأباه المبدا الذي أقامه الامام علي (ع) وسار عليه ، ولو كان مناورا لما رد الشروط التي أملأها عليه عبد الرحمن بن عوف من داخل الشورى العمرية ، بل لوافق عليها وتسلم ـ بالتالي زمام الإمارة ، وما كان لأحد بعد ذلك أن يسأله عن سيرة الشيخين ألتزم بها أم لا ، والحقيقة ان الامام علي (ع) كان صادقا مع نفسه ومع الناس إذ قال : " دعوني والتسموا غيري " لأنه أعطى تبريره لهذا الموقف بقوله : " إنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول ، وإن الآفاق قد أغامت ، والمحجة قد تنكرت ".

 

وقد كان (ع) خبيرا بما أنطوت عليه نفوس القوم من الشبهات والأحقاد والأطماع ، كما إن المتغيرات التي طرأت على الدولة الإسلامية في سائر نواحيها ـ خلال حكومة الثلاثة ـ كانت من السعة بحيث لا يمكن لعلي (ع) ازالتها الا بقرارات ومواقف حاسمة لا تقوم لها القلوب ولا تركن لها النفوس ، وهو من جانبه لا يرضى أن يقر أوضاعا لا تمت إلى الدين بصلة.

وفي ذات الوقت كانت ثقته بمن حوله ضعيفة ولا يأمن غوائلهم ولا يضمن مساندتهم له إذا ما قام بحركة اصلاحية كبيرة تعيد الوضع إلى سابق عهده أيام رسول الله (ص) ، كما برهنت عليه الاحداث فيما بعد.

 

لكن الامام علي (ع) تحت إلحاح الناس واجتماعهم عليه نهض بالأمر ، وفي ذلك يقول : " أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ على العلماء الا يقاروا على كظة ظالم ، ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولالفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ".

 

بهذه الكلمات العميقة يبين الامام الدواعي والأسباب التي حملته على التصدي للامارة والامساك بمقاليد الدولة وأزمة الأمور ، ولولاها لظل كما هو يؤدي رسالته اماما شاهدا على عصره.

 

العودة لصفحة البداية

العودة لفهرس المستبصرين