( محمد عصمت بكر )

العودة لصفحة البداية

العودة لفهرس المستبصرين

 

البطاقة الشخصية

 

مولده ونشأته : من مواليد مصر ، ترعرع في أجواء غذته بعقيدة أهل السنة ، وفرضت عليه بعض الأفكار والرؤى ، ولم تسمح له أن يمس تلك العقائد الموروثة ، فسار وفق ما تملي عليه الأجواء التي تحيطه ، لكنه انطلاقا من حب الاستطلاع توجه للبحث عن أدلة ما يحمله من أفكار ومعتقدات ، وأحب أن يوفر لنفسه عقيدة يطمئن اليها قلبه ويجد فيها زادا لإيمانه ونورا لبصيرته ، واجه الشيخ محمد عصمت في بداية بحثه عقبة مسألة عدالة الصحابة التي اجمع عليها أهل السنة ، في حين أنه وجد من خلال مطالعته لتاريخ الصحابة أنهم اختلفوا بعد رسول الله (ص) ، وقد أدى بهم هذا الاختلاف إلى الوقوع في البلاء والويلات بحيث تمخض عنه أن أصبحت الأمة الواحدة فرقا وأحزابا ، كل فرقة ترى أن الحق معها فيما تنتهجه من تصورات وأساليب وأن الباطل في خلاف ذلك ، فاستدعى هذا الأمر من الشيخ محمد عصمت أن يقوم ببحث موضوعي يبين له الأسباب التي دفعت الأمة إلى التمزق والتناحر عقيب رحلة النبي المصطفى (ص) ، كما استهدف الشيخ محمد عصمت من بحثه أن يتعرف على الفرقة الناجية من بين هذه الفرق.

 

النتائج التي توصل اليها خلال البحث : توصل الشيخ محمد عصمت خلال بحثه إلى نتائج قلبت عنده الموازين التي كان عليها فيما سبق ومجمل هذه النتائج هي ما يصفها بقوله : " إن من المسلم به ، أن الأمة الإسلامية انقسمت بعد رسول الله (ص) إلى فريقين سياسيين :

قال : فريق بأن الخليفة بعد النبي (ص) هو علي بن أبي طالب ، وذهب الفريق الآخر إلى أن الخليفة بعد رسول الله (ص) هو أبو بكر ، وقد جاء اختيارهم له بناء على أن الرسول (ص) لم ينص على أحد من بعده بالخلافة ، وإنما جعل أمر سياسة الناس إلى من يختارونه بأنفسهم ، ولكن هذا الفريق جعل حقَ سياسة الناس ، في المهاجرين دون الأنصار ، وفي قريش دون سائر المهاجرين من القبائل الأخرى ، ولم يجعلوا للموالي فيها أي حق ، حتى حق الاختيار .. ، وعلى كل حال فقد سبق الفريق الثاني إلى الحكم ، واختاروا أبا بكر خليفة على الناس ، وسكت الفريق الأول الذي ذهب إلى امامة علي بن أبي طالب (ع) اللهم الا ما احتج به بعضهم على صحة ما ذهب إليه ، كالامام علي (ع) نفسه ، والسيدة فاطمة الزهراء (ع) ، والعباس عم الرسول الأعظم ، والزبير بن العوام ، وسلمان الفارسي ، وعمار بن ياسر ، وأبي ذر الغفاري ، وغيرهم ممن أظهروا بعض المعارضة لخلافة أبي بكر ، ولكنهم في النهاية سكتوا حفاظا على بيضة الإسلام ، ووحدة المسلمين.

 

إلا أن هذا الخلاف ظل في طي الصدور والكتمان ، ولربما ظهر في آنات متفرقة ، ومناسبات مختلفة ، ولكنه لم يرتفع عن مستوى القيل والقال حتى الشطر الثاني من خلافة عثمان بن عفان ، فبعد أن رأى المسلمون منه ما خالف به الإسلام ، وتحيزه غير المنصف إلى بني أمية ، رأوا عزله ، ولكن زمام المبادرة أفلت من أيدي الحكام ، فانتهى الأمر إلى قتله ، واختاروا على اثره مولانا الامام عليا (ع) هنا ظهر ما كان مكتوما ، وخرج ما كان في الصدور ، فأخذ الخلاف السياسي شكلا جديدا لم تعرفه الأمة الإسلامية من قبل ، حيث تحول من خلاف في الآراء ، إلى نزاع مسلح ، أريقت فيه دماء العديد من المسلمين ، فالذين تجنبوا خلافة أمير المؤمنين (ع) لم يجدوا أسبابا في الخروج علي امامته ، لأنهم لا يملكون القدرة على القدح في عدالته ، وقدرته على سياسة الناس ، فتعللوا حينئذ بالمطالبة المسلحة بدم عثمان بن عفان ، وشهروا سيوفهم في وجه خليفة المسلمين الامام علي (ع) واستمر هذا النزاع المسلح بين الطائفتين ، طائفة الامام علي (ع) بصفته خليفة المسلمين ، وبين الطائفة الأخرى ، التي لم يكن لها خليفة ، ولا راية ، وهذه الطائفة الأموية هي التي مثلت بعد ذلك السلطة الحاكمة ، والتي وردت الروايات بوسمها بالملك العضوض تارة ، والظلم أخرى ، والبغي ثالثة ، وغير ذلك.

 

اجماع الأمة على فضل الامام علي (ع) : ويضيف الشيخ محمد : " وعلى كل حال فقد أجمعت الأمة الإسلامية على فضل الامام علي (ع) وعلو منزلته وعدالته ، وصحة خلافته ، وأن حكومته هي الحكومة الشرعية ، واجمعت الأمة كذلك على خطأ معاوية وظلمه ، وعدم مشروعية دولته ، الا من شذ ممن لا وجاهة لهم آنذاك ، ولا من العلماء الذين يعتد بهم في المجال العلمي والتحقيقي ، ولما استولى الجانب الأموي على السلطة ، بعد استشهاد أمير المؤمنين (ع) أصبحت أموال المسلمين ورقابهم في أيديهم ، وضعف الجانب العلوي ، وصار لا يستطيع أن يجهر ، أو يصرح برأيه في الأمور السياسية ، وأحوال الساسة ، ولما كان ذلك ، مالت طائفة من السلف إلى الجانب الأموي ، وانحازت إليه ، وتجنبت الفريق العلوي الذي لم يملك من الدنيا شيئا ، ساعدهم على ذلك الطبيعة الكائنة في كل من الحق والباطل ، كما قال الامام علي (ع) : " الحق ثقيل مرىء ، والباطل خفيف وبيء " ، وبطبيعة الحال ، استغل هؤلاء النفر مكانتهم الدينية المرموقة بين المجتمع ، فزينوا للناس أعمال الحكام ، وبرروا قبائحهم ، وثبطوا الناس عن الثورة عليهم ، فحدثوا بأحاديث عن الرسول الأعظم (ص) ، وأدلوا بآرائهم ، وأفتوا الناس بلزوم طاعتهم ، وتحريم الخروج عليهم ، وهذه الأحاديث إما أن تكون صحيحة عن الرسول الأعظم (ص) ، وأعمى في غير مقامها ، واستشهد بها في غير محلها ، أو أن تكون غير صحيحة عنه (ص) ، وكانت وليدة الاحداث ، والمتغيرات السياسية في ذلك الوقت ، ويمكن أن تكون قد وضعت مدحا وثناء للسلطة ، أو ذما وطعنا في خصومها ، ومن جانبهم رفعت السلطات هذه الروايات ، وهؤلاء الرواة ، إلى منزلة لا تنالها يد المعارضة ، ولا يد النقد ، ودأبوا على دعمها وتقويتها عبر التاريخ.

 

فأصبحت بعد دعمها من قبل السلطة الحاكمة ، كقميص عثمان ، يستغلها السلاطين ، واحدا بعد الآخر ، في تقوية سلطانه ، واضعاف معارضيه ، وقد ساروا على ذلك زمانا ، حيث صارت تلك الروايات ، وهؤلاء الرواة من القوة ، حيث أصبح المؤمنون يتعبدون ، ويتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى ، وبذلك رتع السلاطين والحكام في غيهم ، وظلمهم ، ونعموا ببطرهم وفسادهم ، آمنين من غضبة العلماء الأحرار ، دون أن ينغصوا عليهم ترفهم ، فسعوا في الأرض فسادا ، وحلوا عرى الإسلام عروة عروة ، حتى لم يبق منه الا رسمه ، إلى أن شب جيل من الحكام ، قاموا بتسليم بلادهم ورعاياهم إلى أعدائهم ، فعلوا ذلك وأكثر منه ، في ظل وحماية تلك الروايات والفتاوى التي أصدرها بعض السلف ، لصالح فريقهم الأموي الذي تحيزوا إليه ".

 

اقتطاف ثمار البحث : وبهذه الصورة التي توصل اليها الشيخ محمد عبر البحث ، بادر إلى تغيير انتمائه المذهبي وتصحيح مفاهيمه الخاطئة والعدول عما كان عليه من أمور عقائدية ، وتوجه إلى رحاب أهل البيت (ع) لينهل من معينهم المعارف العذبة والعلوم النقية التي لم تمسها أيدي التحريف والتلاعب.

 

مؤلفاته :

 

1 _ " عبد الله بن عمر بين السياسة والدين " : صدر عن الدار الإسلامية ، بيروت سنة 1413هـ ـ 1993م ، جاء في مقدمة المؤلف : " قصدت من هذا البحث الذي اسميته ( السلف بين السياسة والدين ) بيان تميز هؤلاء النفر إلى فريق سياسي من الفرق السياسية في أزمانهم ، مما أثر ذلك على فتواهم ، وعلى رواياتهم سواء كانت هذه الروايات مما يحتمل فيها الوضع ، أم محل الاستشهاد بها ، إذا كانت صحيحة ، وقد كان من أبرز هؤلاء السلف ( عبد الله بن عمر بن الخطاب ) ولذلك آثرنا أن نبدأ بالبحث في مواقفه السياسية وبعض رواياته وفتاويه ، التي تأثرت بهذا الموقف ، واثرت فيما بعد على أجيال الشباب المسلم " ، ويحتوي هذا الكتاب على عدة مواضيع منها : قعود عبد الله بن عمر ، عن بيعة الامام علي (ع) وأسباب ذلك ، بيعة ابن عمر ليزيد بن معاوية ، قبول ابن عمر جوائز الأمراء ، وبحث في بعض رواياته.

 

وقفة مع كتابه : " عبد الله بن عمر بين السياسة والدين " : عبد الله بن عمر : يعرف الكتاب هذه الشخصية ويوضح خصائصها ودورها السياسي والديني في صدر الإسلام بأهم المظاهر وهو البيعة ، فيقول : هو عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل ، القرشي ، العدوي ، أمه : زينب بنت مظعون الجهمية ، أخت عثمان بن مظعون ، وهو أخو حفصة بنت عمر ، زوج الرسول الأعظم (ص) ، عاش عبد الله بن عمر ، ستا ، أو سبعا وثمانين سنة ، ومات على الأشهر سنة أربع وسبعين (74هـ) من الهجرة النبوية الشريفة ، وذلك في زمن عبد الملك بن مروان ، عاش عبد الله بن عمر في صدر الإسلام ، وعاصر احداثا سياسية ، واجتماعية ، ودينية خطيرة ، غيرت وجه التاريخ ، ولا زالت آثار تلك التغيرات تعاني منها الأجيال الإسلامية ، جيلا بعد جيل ، حتى يومنا هذا الذي نعيشه.

فكل الآلام والمصاعب التي تواجه الأمة الإسلامية هي من نتاج تلك التغيرات والاحداث في ذلك الزمان الذي عاش فيه عبد الله بن عمر ، الذي كان له فيه مواقف ظاهرها الحياد ، وواقعها الانحياز إلى طائفة دون طائفة ، وإلى حدث دون حدث ، فقد كان له موقف تجاه بيعة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، ثم كان له موقف آخر مغاير ، تجاه بيعة الامام علي (ع) وكذلك كانت له مواقف أخرى ، يختلف بعضها عن البعض الآخر ، مع وحدة الموضوع فيها ، هذه المواقف المنحازة ، كان لها الأثر الكبير في فتاواه ورواياته ، خاصة التي كانت تتعلق بالمجال السياسي ، هذا الأثر كان بشكل ملحوظ ، لا يمكن انكاره ، أو تجاهله ، لما كان له من تأثير على مسيرة التاريخ الإسلامي.

 

قعود عبد الله بن عمر ، عن بيعة الامام علي (ع) : من المقطوع به ، ومن المسلمات التاريخية ، أن عبد الله بن عمر امتنع عن مبايعة الامام علي (ع) وتخلف عنها طيلة سنوات حكم أمير المؤمنين (ع) الذي امتد من السنة الخامسة والثلاثين (35هـ) من الهجرة النبوية الشريفة ، إلى السنة الأربعين (40هـ) ، منها وهذه طائفة من الروايات الدالة على ذلك : قال المسعودي في ( مروج الذهب ) : " وقعد عن بيعته (ع) جماعة عثمانية ، لم يروا الا الخروج عن الأمر ، منهم سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وبايع يزيد بعد ذلك ، والحجاج ، لعبد الملك بن مروان ، ومنهم قدامة بن مظعون ، وأهبان بن صفي ، وعبد الله بن سلام ، والمغيرة بن شعبة الثقفي ، " وممن اعتزل من الأنصار : كعب بن مالك ، وحسان بن ثابت ، وكانا شاعرين ، وأبو سعيد الخدري ، ومحمد بن مسلمة ، حليف بني عبد الأشهل ، وزيد بن ثابت ، ورافع بن خديج ، ونعمان بن بشير ، وفضالة بن عبيد ، وكعب بن عجرة ، ومسلمة بن خالد " انتهى ، وقال ابن عبد البر في كتابه المعروف بـ ( الاستيعاب ) ، في ترجمة عبد الله بن عمر ، قال : " وكان رحمه الله لورعه ، قد أشكلت عليه حروب علي ، وقعد عنه " انتهى ، بمعنى أنه أشكلت عليه حروب علي ، فقعد عن بيعته ، وعلى كل حال ، فان تخلف عبد الله بن عمر ، عن بيعة أمير المؤمنين (ع) مما لا خلاف فيها ، ولا انكار لها.

 

اعتذار ابن عبد البر عن ابن عمر : قال ابن عبد البر في ( الاستيعاب ) ، في ترجمة عبد الله بن عمر : " وكان رحمه الله لورعه ، أشكلت عليه حروب علي وقعد عنه "، الظاهر أن " الواو " في قوله " وقعد عنه " بمعنى " الفاء " حيث لا معنى لحملها على العطف المجرد المسمى عند البيانيين ـ أي أهل البلاغة ـ بالوصل ، ومراده من قوله " قعد عنه " : أي قعد عن بيعة الامام (ع) لأن الضمير في " عنه " يعود عليه (ع).

ويكون المعنى حينئذ : " أشكلت عليه حروب علي ، فقعد عن بيعته " أي ان سبب قعوده عن البيعة هو استشكاله حروبه (ع).

والواقع ان صدور مثل هذا الاعتذار من ابن عبد البر في غاية الغرابة ، لأن الرجل من العلماء المعتبرين والمعدودين في فنهم ، فسعة علمه بالفقه والأصول وخاصة علم الحديث والرجال ، لا ينكر ، ولكن المحتمل أنه كغيره ممن وقعوا في أسر العصبية ، لأن ما اعتذر به عن ابن عمر ، فيه من السذاجة ما لا يقبله صبي دون الحلم ، لأن قعوده عن البيعة كان متقدما على الحروب ، فكيف يكون سبب قعوده عن البيعة هو استشكاله حروبا لم تقع أصلا ، ولم يتخذ في شأنها قرار في ذلك الوقت الذي تمت فيه البيعة ، بل لم يظهر أحد عداءه إلى الامام (ع) في ذلك الوقت ولم يشهر أحد سيفه في وجهه ، فأي صبي يصدق أن النهار يكون سببا في طلوع الشمس ، ومن المسلم أن البيعة شيء ، والحروب شيء آخر ، فيمكن أن يبايع ثم إذا أشكلت عليه حروبه (ع) قعد عن الحروب ، وذلك لا يناقض بيعته.

 

وهناك كثير ممن بايعوا أمير المؤمنين (ع) ولم يحاربوا معه ، وعلى ذلك فقد قبل بيعتهم ، ولم يردها ، وهناك كثير ممن استأذنوا أمير المؤمنين في القعود عن الحرب ، فأذن لهم ، ولم يعنفهم ، فالبيعة لا تستلزم المشاركة في الحروب ، وهذه من المسائل التي لا اشكال فيها فقهيا ، باستثناء ما إن صدر أمر بمشاركة معين في الحرب ، فامتناع المعين عن المشاركة في الحروب يتنافى مع البيعة ، ولكنها لا تعتبر خلعا لها ، ونضيف إلى هذا أن ابن عمر نفسه لم يبرر قعوده بمثل هذا التبرير ، حيث لو أشار ابن عمر بمثله ، لكانت الطامة أكبر ، والمصيبة أعظم ، لأنه استشكل حروب علي (ع) للناكثين ، والقاسطين ، والمارقين ، فقعد عن بيعته ، ولم يستشكل قتل يزيد للامام الحسين (ع) وأولاد الرسول الأعظم (ص) ، وسبي نسائه في ( كربلاء ) ، ولم يستشكل استباحته لمدينة الرسول (ص) وفيها بقية المهاجرين والأنصار ، وأبناؤهم ، واستحيى فيها نساءهم ، وذبح أبناءهم ، ولم يستشكل حرقه للكعبة المشرفة ، وتهديمها بالمنجنيق ، فكيف يستشكل حروب علي ، ويقعد عنه ، ولم يستشكل فظائع ، يزيد ويبايعه، وأما قوله " كان لورعه ... " : الحق انه ليس من الأنصاف في شيء أن نسمي القعود عن بيعة الامام (ع) والتخلف عنه ، ورعا ، خاصة بعد أن وردت الروايات المستفيضة والمشهورة بين المسلمين ، عن الرسول الأعظم (ص) صحيحة ، صريحة ، بأن الامام علي (ع) امام البررة ، وأمير المؤمنين ، وامام المتقين ، وحيث أننا : لسنا في مقام سردها ، الا أننا : نشير إلى حديث واحد منها بقصد الانسجام مع الموضوع ، أو التذكر ، أو الاشارة اليها ، للرجوع إلى مظانها :

روى الترمذي ، عن زيد بن أرقم : أن رسول الله (ص) ، قال : " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما " ، وروى مثله النسائي ، عن جابر ابن عبد الله ، وكذلك أخرجه كل من أحمد بن حنبل ، عن زيد بن ثابت ، وكذلك الحاكم في ( المستدرك ) ، وقال : " هذا الحديث صحيح الاسناد ، وعلى شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " ، والمعلوم من الدين ضرورة أن الامام علي (ع) من عترة الرسول الأعظم (ص) وهذا أمر صريح بالتمسك به ، وأقل ما يمكن أن يتمسك به هو البيعة له (ع) فلا يصح بحال أن تكون مخالفة الرسول (ص) ورعا ، كما قال ابن عبد البر.

 

بيعة ابن عمر ليزيد بن معاوية : بايع عبد الله بن عمر يزيد بن معاوية ، وتمسك ببيعته اياه ، أيما تمسك ، وعض عليها بالنواجذ ، وحال يزيد بن معاوية لا يخفى على أحد من المسلمين ، فقد تربع على صدور المسلمين ثلاث سنوات.

السنة الأولى منها : قتل الامام الحسين (ع) وأبناءه ، وأبناء أخيه الحسن (ع) وأخوانه من الامام علي (ع) وسبي بنات رسول الله صلى الله عليهم أجمعين.

وفي السنة الثانية : استباح فيها مدينة رسول الله (ص) وقتل فيها من قتل ، واستعبد فيها الأحرار ، وقتل الأطفال ، وبقر بطون الحبالى ، وفضَ جيشه بكارات العذارى ، في وقعة ( الحَرَة ) الشهيرة.

وفي السنة الثالثة : حارب عبد الله ابن الزبير في الكعبة المشرفة ، فأحرقها ، وهدمها.

 

قصة البيعة ليزيد : قال ابن الأثير في ( الكامل ) ، في احداث سنة ست وخمسين ، من الجزء الثالث ، قال : " وفي هذه ـ السنة ـ بايع الناس يزيد بن معاوية بولاية عهد أبيه ، وكان ابتداء ذلك وأوله من المغيرة بن شعبة ، فإن معاوية أراد أن يعزله عن ( الكوفة ) ، ويستعمل عوضه سعيد بن العاص ، فبلغه ذلك ، فقال : الرأي أن أشخص إلى معاوية ، فأستعفيه ، فيظهر للناس كراهتي للولاية ، فسار إلى معاوية ، وقال لأصحابه حين وصل إليه : إن لم أكسبكم الآن ولاية وامارة ، لا أفعل ذلك أبدا " ، ومضى حتى دخل على يزيد ـ قبل دخوله على معاوية ـ وقال له : انه قد ذهب أعيان أصحاب النبي (ص) وكبراء قريش ، وذوو أسنانهم ، وإنما بقي أبناؤهم ، وأنت من أفضلهم ، وأحسنهم رأيا ، وأعلمهم ، بالسنة والسياسة ، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة ، قال : ـ يزيد ـ : أوترى ذلك يتم ، قال : نعم " ، " فدخل يزيد على أبيه ، وأخبره بما قال : المغيرة ، فأحضره ، وقال له : ما يقول يزيد ، فقال : يا أمير المؤمنين قد رأيت من سفك الدماء ، والاختلاف بعد عثمان ، وفي يزيد منك خلف ، فأعقد له ، فإن حدث بك حادث كان كهفا للناس ، وخلفا منك ، ولا تكون فتنة ، قال : ومن لي بهذا، " ،

" قال : أكفيك أهل (الكوفة) ، ويكفيك زياد أهل (البصرة) ، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك ، قال : فارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق اليه في ذلك ، وترى ونرى" ، " فودعه ورجع إلى أصحابه ، فقالوا : مه ، قال : لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمد ، فتقت عليهم فتقا لا يرتق أبدا " ، واستطرد ابن الأثير قائلا : " وقيل : أرسل ـ المغيرة ـ أربعين رجلا ، وجعل عليهم ابنه عروة ، فلما دخلوا على معاوية قاموا خطباء ، فقالوا : إنما أشخصهم إليه النظر لأمة محمد ، وقالوا : يا أمير المؤمنين كبرت سنك ، وخفنا انتشار الحبل ، فأنصب لنا علما ، وحد لنا حدا ننتهي إليه ، فقال معاوية : أشيروا علي ، " فقالوا : نشير بيزيد ابن أمير المؤمنين ، فقال : أو قد رضيتموه ، فقالوا : نعم ، قال : وذلك رأيكم ، قالوا : نعم ورأي من ورائنا ، فقال معاوية لعروة سرا عنهم : بكم أشترى أبوك من هؤلاء دينهم ، قال : بأربعمائة دينار ، قال : لقد وجد دينهم عندهم رخيصا " ( انتهى).

 

وذكر المسعودي في ( مروج الذهب ، الجزء الثالث ) ، في شأن هذه البيعة ، قال : " ثم قال رجل من الأزد ـ ارتقى منبر معاوية ـ فأشار إلى معاوية ، وقال : أنت أمير المؤمنين ، فإذا مت فأمير المؤمنين يزيد ، فمن أبى فهذا وأخذ بقائمة سيفه فسله " ، " فقال معاوية : أقعد فأنت أخطب الناس " ، هذا نزر يسير في كيفية البيعة ليزيد بن معاوية ، وقد اكتفينا بذكره حيث أن ما فعله معاوية من أجل اتمام هذه البيعة وامضائها ، ليس بالقليل ، وليس بالسهل اليسير ، ومن أراد الزيادة والوقوف على هذه الأعمال ، فليراجع ذلك في محله حتى يرى الأهوال في كيفية عقد البيعة ، واتمامها ، هكذا انعقدت البيعة ليزيد بن معاوية ، وبهذا الشكل المروِع ، وبهذه الكيفية من شراء الضمائر والأديان ، تمت البيعة له ، ووضع على صدور المؤمنين ، فمع ذلك ، ومع علم ابن عمر به ، فقد سارع بالبيعة له من اليوم الأول الذي بلغه فيه هلاك معاوية ، والبيعة ليزيد ، ولم يتهمل حتى يرى رأي المسلمين فيها ، هل سيرضى كلُ المسلمين بها فيبايعه ، أم إنهم لا يرضون بها كلهم ، فيقعد عنها ، كما قعد عن بيعة أمير المؤمنين (ع) ومن الثوابت التاريخية التي لا مجال للشك فيها أن سادات المسلمين ، ومن وعى في الأمة الإسلامية ، امتنع عن البيعة ليزيد ، ولم يرضوا بها ، ومن رضي بها من تلك الأمة ، أما لحبه للدنيا ، أو أنه حمل عليها قسرا.

 

فالامام الحسين (ع) وهو من أعالي سادات المسلمين ، رفض تلك البيعة ، ونقم عليها ، وكذلك أهل بيته ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله ابن الزبير ، ومن معه من أهل مكة ، وكذلك أهل الكوفة ، وأهل البصرة ، والعقلاء من المدينة ، وخلق كثير مما لا يحصيهم الا الله ، سبحانه وتعالى.

كل هؤلاء قعدوا ، عن بيعة يزيد ، بل رفضوها أشد الرفض ، وأعلنوا رفضهم لها ، بكل صراحة ، ورفعوا أصواتهم بالتنديد بها ، وأسلحتهم لمحاربتهم ، ولم يبايعه الا من كان مكرها على ذلك ، أو مغفلا لا يستطيع أن يميز بين الحق والباطل ، ولأبين الناقة والجمل فمع ذلك لم يتمهل ابن عمر في قبولها ، والدفاع عنها ، دونما روية منه ، قال ابن الأثير في ( الكامل ، الجزء الثالث ) ، وكذلك الطبري في ( تاريخه ) من الجزء الرابع ، عن الواقدي ، قالا : ما محصله : " وقيل ان ابن عمر كان هو وابن عباس بمكة ، فعادا إلى المدينة ، فلقيهما الحسين ، وابن الزبير ، فسألاهما ما وراؤكما ، فقالا : موت معاوية وبيعة يزيد ، فقال ابن عمر : لا تفرقا جماعة المسلمين " ( انتهى) ، فهل يمكن اعتبار القعود عن بيعة يزيد تفريقا لجماعة المسلمين ، والقعود عن بيعة الامام علي (ع) غير ذلك ، سؤال نوجهه إلى ابن عمر في عالم البرزخ ، أو نوجهه إلى أصحاب العقول النيرة ليجيبوا عنه.

 

قبول ابن عمر جوائز الأمراء : لاشك في أن ابن عمر كانت له علاقات حميمة مع ملوك وأمراء بني أمية ، فكانوا يرسلون إليه الجوائز ، والهدايا ، وغيرها من أنواع العطايا ، في مناسبة ، وفي غير مناسبة ، وخاصة في المناسبات السياسية الخطيرة ، كالتي ذكرناها من قبل ، وهو أنه قبل جائزة معاوية ، لما أراد البيعة ليزيد ، وأمثال ذلك ، وكان عبد الله يقبلها ، ولا يرد منها شيئا ، ثم تنقل عنه الأخبار والآثار التي لو نُظر اليها بامعان ، وبعين الانصاف ، والخلوص من العصبية ، لوجدناها تنصب في ، قالب واحد ، وهو خدمة الجانب السياسي الذي انحاز إليه سواء أكان مدحا ودفاعا عنه ، أم ذما في خصومهم ، والطعن فيهم ، ومسألة قبول ابن عمر لجوائز الأمراء ، بلا تحفظ ، مسألة لا يجهلها أحد لاستفاضة الروايات والأخبار بمضمونها ، نذكر منها : ما رواه ابن سعد في ( الطبقات الكبرى ) في ترجمته : حدثنا : حماد بن سلمة ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن مينا : أن عبدالعزيز بن مروان ـ ابن الحكم الأموي ـ بعث إلى ابن عمر بمال في الفتنة فقبلها " ، وروى ابن سعد بسند آخر ، عن نافع مولى ابن عمر ، قال : " كان يرسل إلى ابن عمر بالمال فيقبله ، عن نافع أيضا ، قال : كان المختار ـ ابن عبيد الله الثقفي ـ يبعث بالمال إلى ابن عمر فيقبله ، ويقول : لا أسأل أحدا شيئا ، ولا أرد ما رزقني الله " ، وذكرنا قبل ذلك رواية ابن كثير التي ذكر فيها " إن معاوية بعث إليه بمائة الف لما أراد أن يبايع ليزيد ، فما حال عليه الحول ، وعنده منها شيء " ، وكذلك ما رواه ابن الأثير في الرواية السابقة : " وعزم معاوية على البيعة لابنه يزيد ، فأرسل إلى عبد الله بن عمر بمائة الف درهم فقبلها " ، ومن ثم فلا ريب في أنه كان يقبل جوائز الأمراء والسلاطين ، بلا تحفظ في وقت الفتن والخلافات السياسية ، وهذه المسألة من المسائل المعلومة والمسلم بها عند أصحاب السير ، والتواريخ.

 

والواقع ان قبول علماء الدين الهدايا ، والجوائز ، من الأمراء المتهمين بالفساد ، والمعروف عنهم إستهتارهم بالقيم الإسلامية ، ويكون عرضة للوقوع في شباك سياستهم الخادعة ، بالاضافة إلى المخالفة الصريحة لقوله جل شأنه : ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ) ، روى صاحب ( تفسير البرهان ) ، وفي تفسير هذه الآية الشريفة عن الامام الصادق (ع) أنه قال الرجل : يأتي السلطان ، فيحب بقاءه إلى أن يدخل يده في كيسه ، فيعطيه " ، وبلا شك ان النفس البشرية تميل إلى من يعطيها ، فتكون المودة والولاء ، فضلا عن الركون المنهي عنه الذي هو أقل درجة من درجات الموالاة ، وقبول عطايا الولاة الظلمة ، اعتراف واقرار بولايتهم ، وهذا يعني مشاركته في كل أثم يرتكبونه ، وفي كل معصية يأتون بها.

 

ماذا ، قال ابن عمر نفسه : في ( الطبقات الكبرى) من الجزء الرابع ، قال ابن سعد : " أخبرنا : محمد بن مصعب ، حدثنا : الأوزاعي أن ابن عمر ، قال : لقد بايعت رسول الله (ص) فما نكثت ولابدلت إلى يومي هذا ، ولا بايعت صاحب فتنة ، ولا أيقظت مؤمنا من مرقده " ، هذه الرواية صحيحة السند إلى ابن عمر بالاعتبار الخاص ، وأقصد بالاعتبار الخاص هنا هو ان السند صحيح بحسب اعتبار أهل الجرح والتعديل ، كالذهبي ، ومن نهج نهجه ، ولولا هذا لما تناولت هذه الرواية بالبحث والتحليل لما تنطوي عليه من أمور خطيرة في الدين ، لا أعلم كيف يغفرها الله سبحانه وتعالى ، ذكرنا في أول البحث أن عبد الله بن عمر : مات سنة أربع وسبعين من الهجرة النبوية الشريفة ، وذلك في خلافة عبد الملك بن مروان ، وحينئذ يكون قد عاصر كلا من خلافة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، ومعاوية ، ويزيد ، ومروان بن الحكم ، وعبدالملك بن مروان ، وذكرنا أنه بايع لكل هؤلاء الولاة ، ولم يتخلف عن بيعة أحد منهم الا عن بيعة أمير المؤمنين (ع) فقد بايع لأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، ثم قعد عن بيعة علي (ع) ثم بايع لمعاوية ، ومن بعده بايع ليزيد بن معاوية ، ثم بايع لمروان بن الحكم ، ومن بعده بايع الحجاج بن يوسف الثقفي الملعون ، لعبد الملك بن مروان ، وقد جاء في بعض الروايات أن الحجاج بن يوسف الثقفي ، السفاح المعروف ، لما أراد أن يأخذ البيعة لعبد الملك بعد هزيمة عبد الله ابن الزبير ، وقتله ، وهدم أجزاء من الكعبة المشرفة ، مدَ لابن عمر رجله ليأخذ البيعة منه ، فبايعه عبد الله بن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، على هذا الحال المؤسف المخزي ، على كل حال فقد بايعه سواء صحت رواية مبايعة الحجاج له برجله ، أم لا ، فياليت ابن عمر بايع أمير المؤمنين (ع) وقاتل معه ، واستشهد تحت رايته الشريفة الطاهرة ، كعمار بن ياسر ، وغيره ممن شُرفوا في دنياهم وآخراهم ، وفازوا بسعادة الدارين ، لأن من يأبى الذل ، لا يذل ، ومن يرضى بالهوان ، يهن ، ومن لم يرضى بالحق ، رضي بالباطل.

 

نعود إلى ما نحن في مقام بحثه ، فنقول : انه لا مناص من حمل قوله : " ولا بايعت صاحب فتنة " الا على الامام علي (ع) لأنه ، وكما ذكرنا لم يقعد عن بيعة أحد ، الا عن بيعته (ع) وبذلك يكون قد رمى الامام (ع) بأنه صاحب فتنة وهذا يتعارض كل التعارض والنصوص القطعية القرآنية ، والروايات المستفيضة عن الرسول الأعظم (ص) ، والتي لا يمكن أن يساورنا الشك في أنها قد طرقت مسامعه ، فلاشك أنه قرأ قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ، فأهل البيت المعنيون في الآية الكريمة ، قد بينهم الرسول الأعظم (ص) وعينهم ، وهذا البيان هو من خصائصه (ص) كما بين ذلك الحق ، تبارك وتعالى : ( وما أرسلنا من قبلك الا رجالا نوحى اليهم فسـلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون ) ، وقال : ( وما أنزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) ، فقد بين الرسول الأعظم (ص) بحكم وظائفه المكلف بأدائها ، مصاديق أهل البيت (ع) وبينهم للناس في أكثر من موضع ، وفي أكثر من مناسبة ، فأحصاهم ، وعدهم عدا ، وهم كما جاء في الروايات الشريفة هم : رسول الله (ص) ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، عليهم جميعا سلام الله وصلواته وتحنناته ورحماته وبركاته.

 

الحسرة والندامة : ان الله ، سبحانه وتعالى ، هو الحق ، والله هو خالق كل الموجودات ، فالموجودات وجدت بالحق ، ومن الحق ، وبقاؤها بفيوضات الحق ، تبارك وتعالى ، ولما خلق الله سبحانه وتعالى عباده ، ما أراد منهم سوى عبادة الحق ( وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون ) ، ومن أعالي : ما يتعبد به لله ، وذروة سنام دينه ، تبارك وتعالى ، هو التقرب إليه بمقارعة أعداء الحق ، ومقارعة أهل الضلال والفساد ، الذين لا هم لهم سوى ملذاتهم الذاتية ، وشهواتهم الشخصية ، وترفهم المضيع لحقوق غيرهم ، سواء أكان هؤلاء من عوام الناس ، أم من حكامهم ، ووجهائهم ، ولكن الخطر يزداد على البشرية والأديان ، إذا كان أعداء الحق هم الحكام والولاة ، فانهم في هذه الحالة يكون عملهم مضادا لعمل الأنبياء ، فالآنبياء والرسل ، صلوات الله عليهم أجمعين ، عملهم هو سياقة الناس إلى الرحمن ، تباركت أسماؤه ، أما حكام الجور ، وولاة الفساد ، فعملهم سياقة الناس إلى الشيطان لعنه الله ، ولعن من تابعه، ولكي يسير العالم وفق ما أراده الله ، قضى الا تقر عينه على كظة ظالم ، والا تهدأ أنفس وتطمئن في جوار الطغاة الأشرار ، ولذلك ، قال الامام الحسين (ع) : " اني لا أرى الموت الا سعادة ، والحياة مع الظالمين الا برما " ، فالمؤمن الذي يعرف الله ، ويعرف حقه ، يعرف جيدا أولياء الله ، فيواليهم ، ويعرف أعدائه فيعاديهم ، فسعادة الدنيا والآخرة لا تكون الا مع أهل الحق ، ولا تكون الا في مقارعة الطغاة ، وأعداء الله.

 

فالحياة لا تكون حياة الا إذا عاش الانسان فيها كريما حرا ، ولا يكون الانسان كريما حرا الا إذا كان مع أهل الحق ، في مواجهة أهل الباطل ، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون ) ، فما يدعو إليه الرسول هو الحياة ، الحياة الحرة ، الحياة الكريمة ، الفاضلة ، لأن ما يدعو إليه الرسول ، هو الحق ، والحق هو شرف الدنيا والآخرة ، وعزهما ، ولا عزيز الا من إعتز بالله ، واعتصم بأوليائه الذين جعلهم وجوها للحق المتمثل في البشر ، فقال (ص) : " الحق مع علي ، وعلي مع الحق " ، والمعنى أن الحق لا ينفك ، عن علي ، وعلي لا ينفك ، عن الحق " فمن كان مع الحق كان مع علي ، ومن كان مع علي كان مع الحق.

وقال (ص) : " يا علي من فارقني فقد فارق الله ، ومن فارقك يا علي فقد فارقني " ، وقال : " القرآن مع علي ، وعلي مع القرآن ".

فعلي (ع) كان بعد رسول الله (ص) وجها من وجوه الحق ، ومثلا له ، لأنه كان قرآنا بشريا ، كما قال : الرسول الأكرم (ص) : " القرآن مع علي ، وعلي مع القرآن " ، فأبو ذر (ر) مثلا ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) والموالين له ، عاش كريما ، حرا ، شريفا ، ومات كريما ، حرا ، شريفا ، لأنه تشرف بالانتساب إلى الحق ، وكذلك عمار بن ياسر (ر) استظل بظل راية الامام (ع) وكان من الموالين له ، ولذلك عاش مجاهدا أبيا ، ومات مجاهدا أبيا.

 

فأصحاب الامام (ع) لما والوا الحق ، ورفضوا الظلم بكل أبعاده ، وأشكاله ، عاشوا شرفاء ، وماتوا شرفاء ، وفازوا بسعادة الدارين ، وأما من تخلف عن بيعته (ع) ورضي ببيعة معاوية ويزيد ، وقعدوا عن مقارعة الظالمين والمفسدين ، سلطهم الله عليهم ، فأساؤوا اليهم ، فالظالم لا يعرف الا نفسه ، فكل من يقربهم الظالم إليه ليس حبا أو ولاء لهم ، ولكن تقريبه لهم لما يمكن أن يستفيده منهم ، وبعد أن يستنفذ طاقاتهم وقدراتهم ، يتخلى عنهم ، وينقلب عليهم ، وأكبر مثال لذلك هو عبد الله بن عمر ، فبعد أن نصر بني أمية ، وعاش مدافعا عن دولتهم ، وقعد عن بيعة أمير المؤمنين (ع) ولم يحارب معهم الفئة الباغية ، حصد نتاج عمله ، وأبدى الندامة والحسرة ، لأنه لم يقاتل مع أمير المؤمنين (ع) الفئة الباغية ، وذلك لما رأى منهم الصدود والهجران ، والكلمات القاسية التي كان لا يتصور أن يخاطب بها ، وتعدى استهانة الأمويين به إلى أن قتلوه كما ذكرت الروايات ، قال ابن الأثير في ( الكامل ) في احداث سنة ( ثلاث وسبعين ) قال : " وفي هذه السنة مات عبد الله بن عمر بمكة ، ودفن بـ ( ذي طوى ) ، وقيل بـ ( فخ ) ، وكان سبب موته أن الحجاج أمر بعض أصحابه بضرب ظهر قدمه بزجِ رمح مسموم ، فمات منها ، وعاده الحجاج في مرضه ، فقال : من فعل بك هذا، قال : أنت لأنك أمرت بحمل السلاح في بلد لا يحل حمله فيه " ( انتهى).

 

فهذه نتيجة حتمية لعبد الله بن عمر ، لأنه كان أحد المثبتين لدعائم الحكم الأموي ، وعندما لم يجدوا منه منفعة مرجوة ، قتلوه بهذه الطريقة المؤلمة ، اضافة إلى ذلك انه كان يرى الكعبة المشرفة ، التي هي شرف المسلمين وقبلتهم ، تحرق وترجم بالمنجنيق من قبل الحجاج بن يوسف الثقفي ، ولا يستطيع أن يحتج ، ولو بكلمة واحدة.

 

ان هذه النهاية المؤسفة والمؤلمة ، ما كان ينبغي أن تليق بعبد الله بن عمر كما لا تليق بأي مسلم آخر ، ولذلك كان يكثر من التأسف ، وابداء الحسرة والندامة ، على أنه لم يقف موقفا شجاعا ، تجاه الفئة الباغية ، الظالمة ، التي أذاقت المسلمين ويلات ظلمهم وفسادهم ، وقد روى الحاكم ، عن الزهري ، عن حمزة بن عبد الله بن عمر ، أنه بينما هو جالس مع أبيه ، إذ جاءه رجل من أهل العراق ، فقال : " يا أبا عبد الرحمن : أني والله لقد حرصت أن أتمسك بسمتك ، وأقتدي بك في أمر فُرقة الناس ، وأعتزل الشر ما استطعت ، واني اقرأ آية من كتاب الله محكمة ، قد أخذت قلبي ، فأخبرني عنها قول الله عز وجل : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت احداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله ) ، أخبرني ، عن هذه الآية ، فقال عبد الله بن عمر : مالك ويلك انصرف عني ، فانطلق حتى توارى ، عنا سواده ، وأقبل علينا عبد الله بن عمر ، فقال : ما وجدت في نفسي من شيء ، ما وجدت في أمر هذه الآية اني لم أقاتل الفئة الباغية كما أمرني الله عز وجل.

 

- وروى ابن عبد البر في ( الاستيعاب ) بسنده ، عن ابن عمر : أنه قال : " ما آسي على شيء الا أنني لم أقاتل مع علي الفئة الباغية " ، وذكر في رواية أخرى : " أن لا أكون قاتلت الفئة الباغية ، على صوم الهواجر " ، هكذا كان الاغتيال هو نهاية عبد الله بن عمر على أيدي من ثبت دعائم حكمهم ، وناضل وناصب العداء لأهل المدينة ، من أجل دولتهم ، ومن ثم يتضح بصورة جلية أن لواء الغدر الذي ينصب يوم القيامة ، لا ينصب الا لمن خلع ، أو قعد ، عن بيعة أهل الحق ، حيث لو كان هذا اللواء ينصب لمن خلع يزيد ، أو من هم على شاكلته ، ولذلك تأسف عبد الله بن عمر وأظهر الحسرة والندامة ، على عدم محاربته أهل البغي.

وعلى كل حال إن كانت حسرته وندامته بعنوان التوبة أمر بينه وبين الله ، سبحانه وتعالى ، إن شاء عاقب ، أو شاء عفى ، فهذه المسألة لا تخصنا حيث أن الذي يخصنا هو ان عبد الله بن عمر لا تصح متابعته في رواياته ، وفتاويه ، أو أعماله التي لها تعلق بالسياسة ، وأمور الناس.

 

العودة لصفحة البداية

العودة لفهرس المستبصرين