( هل أبابكر كان مع النبي (ص) في الغار ؟! )
تاريخ الزيف .... وزيف التاريخ.
حقائق حرفت لتصبحِ غرائب ، وأكاذيب زينت لتكون ثوابت ، وأحاديث محيت وحرقت ، ونصوص غيبت ودفنت ، وعقائد استبدلت ، وأحكام ابتدعت ، ذلك ما جرى طوال الف وأربعمائة عام على يد أجهزة التحريف والتوزير التابعة للسلاطين والحكام ، فكل ما يمكن أن يساعد على تثبيت الملك ، لم تتردد تلك الأجهزة في نسجه وصنعه وتدوينه ، وكل ما يمكن أن يهدد استقرار النظام ، لم تتردد تلك الأجهزة في محوه والغائه وتحريفه.
منذ يوم السقيفة المشؤوم ، بدأت مرحلة الكذب والخداع والتدليس ، لاقصاء آل محمد ( صلوات الله عليهم ) عن مكانتهم الدينية بعدما تم اقصاؤهم عن وظيفتهم الشرعية في قيادة الأمة ، إنهم لم يكتفوا بابعاد أهل الوحي عن طريق سلطانهم ، بل حاكوا المؤامرات لقتلهم والتخلص منهم ، ثم لم يكتفوا بذلك أيضا فعمدوا إلى الانقاص من شأنهم والرفع من شأن أعدائهم ، وهكذا صنعوا تاريخ الزيف المكتظ بالأباطيل والأكاذيب والملفقات ، وهكذا اكتشفنا زيف التاريخ المجمل بالأساطير والأوهام والخرافات ، وانطلى هذا التاريخ على الشعوب والأجيال ، وغدت الأكاذيب مسلمات لا محيص عنها فيما صارت الحقائق بدعا من القول لا صحة فيها ، في ذلك التاريخ الزائف ، رمي ولي الله الأعظم أمير المؤمنين ( صلوات الله عليه ) بطعون شتى ، فهو شارب الخمر الذي لم ينتهِ عنه حتى نزلت آية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ( النساء : 43 ) } وهو الذي أغضب الزهراء (ع) حيث أراد الزواج عليها من ابنة أبي جهل فخرج النبي (ص) مغضبا وهو يقول : ( فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني ) ، ولكن الزيف ماله إلى زوال ، ففي تاريخ الحقيقة ، أن الذي شرب الخمر وكان مولعا به ليس الا عمر بن الخطاب ، والآية قد نزلت فيه وأما الذي أغضب فاطمة (ع) فمعلوم من يكون ، إنه أبو بكر بن أبي قحافة .... ومن غيره.
هذه هي سمات تاريخ الزيف ، التبديل والتحريف ، تلصق مثالب القوم بأهل الطهر ، وتسلب فضائل أهل الطهر لتلصق بالقوم ، لذا فلا عجب - في ذلك التاريخ - إن أصبح لمدينة العلم أرض وحيطان وسقف ومفتاح ، بعدما كانت تقتصر على باب واحد وقف النبي (ص) ليقول : ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ) ، فجاء أبو هريرة ليروي : ( أنا مدينة العلم وأبو بكر أرضها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلي بابها ومعاوية مفتاحها ) ، ولا عجب إن أصبح للمسجد أكثر من باب مفتوح ، بعدما كانت الأبواب تقتصر على باب واحد أمر النبي (ص) أن تسد جميع أبواب البيوت الملاصقة للمسجد والمطلة عليه ، إذ لا يجوز أن يدخل المسجد جنب على غير طهارة ، باستثناء علي وأهل بيته (ع) لأنهم طاهرون مطهرون .... فيأتينا أمثال أبي هريرة ليروي أن النبي سد الأبواب الا باب أبي بكر أو ( خوخة ) أبي بكر.
وهكذا استبدلت ( كتاب الله وعترتي ) بـ ( كتاب الله وسنتي ) وهكذا استبدلت ( أهل بيتي كالنجوم ) بـ ( صحابتي كالنجوم ) وهكذا استبدلت : ( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ) بـ ( أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة ) وهكذا استبدلت ( لما عرج بي إلى السماء رأيت مكتوبا على العرش لا إله الا الله محمد رسول الله عليه ولي الله ) بـ ( .... رأيت مكتوبا على العرش لا إله الا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق ) ، دجل وخداع وكذب وتزوير.
هذا ما أتانا من تاريخ السلاطين والحكام وخلفاء الجور الذين انقضوا على رسول الله وأهل بيته وأرادوا ليطفئوا نورهم .... ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون مهما طال الزمان .... ستظهر الحقيقة يوما ، وسيكتشف المسلمون كيف خدعوا بالأساطير والخرافات ، وكيف غيبوا عن معرفة الحقائق بفعل الأنظمة والحكومات ، لقد كان التاريخ بيد تلك الأنظمة ، فمعاوية - لعنه لله - كان قد أمر جميع قصاصي ، ورواة نظامه بأن يروجوا بين الناس فضائل مختلقة مكذوبة لرفع شأن ابن عمه عثمان بن عفان ولما وجد أن هذه ( الفضائل ) زادت عن حدها ، أمر بأن يروجوا فضائل أبي بكر وعمر في مقابل أن ينتقصوا من قدر أبي تراب .... علي (ع).
وحصل القصاصون على الدرهم والدينار ، وحصلنا نحن المسلمون على تاريخهم الذي كتبوه لنا بيد من طمع ودجل والله وحده العالم مقدار ما خسرناه من تراث الإسلام العظيم الذي لم يصلنا ولم نعرف عنه شيئا ، منذ أن بدأت حملة احراق أحاديث رسول الله (ص) في العهد العمري ، حتى زماننا هذا ، لكن الذين حاولوا طمس الحقائق لن يهنئوا أبدا ، فمهما طال الزمان فلابد للحقيقة أن تظهر يوما ما ، ولابد لها : إن تتجلى امام الناس كالشمس في رابعة النهار ، حتى ولو استمر الزيف لقرون وعقود طوال وانطلى على عقول الأجيال ، لقد كان قدرا مقدارا أن تقع عينا عالم محقق على عدد من النصوص التي أثارت علامات الاستفهام لديه ، وقد كان توفيقا الهيا ذلك الذي جعله يندفع إلى دراستها والتمحيص حولها بما قاده إلى نتائج باهرة ، وأخيرا فلقد كان امدادا غيبيا ذلك الذي جعل هذا السر ينكشف بعد 1422 عاما من التمويه المتواصل ، ذلك على يدي العلامة الشيخ نجاح الطائي ، أشهر المعاصرين المتخصصين في قراءة واستنطاق السير والتواريخ.
( أبو بكر لم يكن مع الرسول في الغار)
هذه هي النتيجة التي توصل اليها الشيخ الطائي بعد بحث مضن جهيد في جميع مصادر أهل العامة ، فطوى بذلك 1422 سنة من الكذب والاختلاق اللذان لفا تلك القضية وأخرجاها عن واقعها الحقيقي ، ( إنه أعظم توفيق الهي حصل لي في حياتي إلى هذا اليوم ) .... هكذا وصف العلامة الطائي رحلته في سبر أغوار هذه القضية الشائكة والمعقدة في بحثه المتكامل الذي خص (المنبر) به للنشر - حصرا - قبل طبعه في كتاب مستقل ستتبناه ( هيئة خدام المهدي ) عليه الصلاة والسلام بالتعاون مع ( دار الهدى ) ، بهدوء واضح وبرصانة علمية ناقش الطائي اكذوبة أن أبا بكر بن أبي قحافة هو من صحب رسول الله (ص) في هجرته المباركة من مكة إلى المدينة ، والكلام الذي يقال : من أنه قد لجأ مع النبي الأكرم (ص) في غار جبل ثور للاختباء من الكفرة الذين يلاحقونهما فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا ( التوبة : 40 ) } ورد الشيخ في بحثه المعمق على جميع الاستدلالات التي يوردها أهل السنة في شأن حضور أبي بكر في الغار ، معتمدا على كتبهم ومصادرهم الحديثية والسيرية ، وعليه فقد كسر الشيخ جميع القواعد التي بنيت على هذه الفرضية ، والتي يحاول منها القوم اثبات أفضلية لأبي بكر تؤهله للخلافة وقيادة الأمة.
ورغم أن القواعد التي بنيت على تلك الفرضية لم تكن سليمة ، إذ يظهر - عند التدقيق في اللفظ والسياق - أن الآية الكريمة هي في مقام الذم لا المدح لأن الرجل الذي كان مع النبي (ص) تلقى نهيا عن (حزنه) وهو ما ينبئ عن كونه ارتكب معصية ، كما إن هذا الرجل حرم من السكينة إذ اقتصر نزولها على النبي .... رغم ذلك إلا أن فقهاء العامة استماتوا في اثبات أن الآية تمدح أبا بكر وتجعل له مرتبة رفيعة رغم مخالفة هذه النتيجة لظاهر النص القرآني ، ويأتي الانجاز العلمي الباهر الذي حققه سماحة الشيخ الطائي في بحث هذه القضية ليبدد كل الأوهام التي ارتبطت بها وكل التفسيرات غير المنطقية التي التصقت بالآية الشريفة ، التي ثبت أنها لم تنزل في أبي بكر لأنه - في الأصل - لم يهاجر مع النبي ولم يكن في الغار بل كان قد هاجر مع البقية إلى المدينة قبل مجيء الرسول (ص) اليها ، وما دام قد ثبت ذلك فإن كل الامتيازات العقائدية التي منحها أهل العامة لأبي بكر - بناء على فرضية النزول - ستنتفي وسيتجرد هو منها تلقائيا.
ويمثل هذا الانجاز أيضا تحولا جذريا في رؤية التاريخ الإسلامي ، تلك الرؤية التي كانت طوال 1400 عام بعين واحدة ، واليوم بات بالامكان أن تكتمل الرؤية بعينين ، والأهم أنه - أي الانجاز العلمي هذا - سيكون بحول الله وقوته موضع رضى مولانا رسول الله الأعظم (ص)الذي تجرأ عليه أرباب السير والحديث وأهل التدوين ، فنسبوا إلى سيرته ما ليس منها في شيء ، أملا في اضفاء هالة القداسة على الحكام ، ومن المتوقع أن يكون لهذا الانجاز شأن عظيم في اثارة الجو العلمي والحماسة العقائدية ، خاصة في حال نشره مفصلا في الكتاب المرتقب ، فالبحث الذي تنشره ( المنبر ) في هذا العدد إنما يمثل خلاصة الكتاب بما يورث الاطمئنان إلى الحقيقة التاريخية ، وفي الكتاب استدلالات وتفصيلات وتشعبات أكثر ، فهو يقع في حوالي 300 صفحة من القطع الكبير ، والمؤمل من جميع المؤمنين والمهتمين المساهمة في طباعة هذا السفر العظيم وتكثيره ليكون له الدور الأكبر في تصحيح الخطأ التاريخي الفادح وتوعية الجماهير الإسلامية بالحقيقة.
وقبل أن نأتي بالقارئ إلى موضوع البحث ، ننتهز هذه الفرصة لتقديم أسمى آيات الشكر والعرفان باسم رئاسة التحرير إلى سماحة العلامة الشيخ نجاح الطائي الذي خص ( المنبر ) بهذا البحث القديم رغم سعي عدد من المجلات ودور النشر اللبنانية الزميلة للحصول عليه ، وإذ تعتز ( المنبر ) بالثقة التي منحها اياها سماحة الشيخ ، فانها تتوجه إلى الله تعالى سائلة أن يوفقها لأداء هذه المسؤولية العظيمة والدفاع عن الشريعة والآل الميامين الطاهرين ( صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ).
ونترك السطور والصفحات التالية لقلم سماحة الشيخ الطائي : قبل البدء فإنني أهدي رحلتي هذه إلى رسول الله (ص) وإلى كل طلاب الحقيقة الساعين للوصول إلى الوقائع كما هي ، فليفرح المخلصون بشتى أصنافهم في وصولنا جميعا إلى قصة الغار الحقيقية دون زيادة ولا نقصان ، لنطوي سوية 1422 هـ سنة من الكذب والاختلاق الذي لف تلك القضية وأخرجها عن صحتها وسيرتها الأصلية ، والشكر لله تعالى على ما أسداه لنا وهدانا إليه في هذا الموضوع ، فقد مضت 1420 سنة هجرية والمسلمون يقرؤون ما لفقه لهم الحكام وما كتبه لهم وعاظ السلاطين وأعوانهم ، فاعتادت الأجيال الإسلامية على قراءة الأكاذيب المكتوبة عن الغار والهجرة فأصبح الخطأ فادحا والأمر مريبا.
ولقد نجح الحكام المستبدون في فرض الظلام على الشعوب فكانت السجون مكتظة بالأحرار والمقابر ملئى بالشهداء ، وفي عالم الفكر أفلحوا في فرض تعتيم ثقافي علي المسلمين في أغلب الحقبات التاريخية التي مرت على الشعوب ، فكتبوا التاريخ كتابة ذاتية في مصلحتهم بعيدا عن الواقع والحقيقة ، وهذا البحث يفند قضية حضور أبي بكر في الغار بشكل علمي استنادا لرواية صحيحة ومتواترة وشواهد وقرائن كثيرة ، ويذكر بأن الأكاذيب كثيرة في موضوع ما يحول الحق إلى باطل ويحول الباطل إلى حق ، فلقد كذب الأحبار على عيسى (ع) فصدق اليهود كلامهم فحاربوا عيسى (ع) وتآمروا على قتله ، وإلى يومنا هذا هم يعتقدون بكذبه ودجله ، وكذب نمرود على إبراهيم (ع) فحمل معظم الناس الحطب لاحراقه ، وكذب قارون علي بني إسرائيل فأصبحوا في جانبه معارضين لموسى (ع) ووصيه يوشع ، وبلغ الأمر درجة أن حاربت صفيراء بنت شعيب زوجة موسى (ع) وصي زوجها يوشع بن نون (ع).
ورجال الحزب القرشي حاولوا جهدهم حشر أبي بكر في قضية الغار والهجرة متشبثين بكل الوسائل الممكنة في هذا المجال ، فانتشرت عشرات الأحاديث المختلقة بين الناس ووضعت الدولة عيدا كبيرا لهذه المناسبة ، ولأن حبل الكذب قصير فقد تبين أن هذه الاكذوبة وضعت لمعارضة حادثة الغدير الواقعة في 18 ذي الحجة ، فقد جعل رجال السياسة حادثة الغار في 26 ذي الحجة في حين كانت واقعة الغار في شهر صفر ، ويتعب المرء من كثرة أكاذيب قريش وأذنابها وقدرتهم الفنية العالية في هذا المجال ، ويكفي أن تعلم أن دهاء قريش لا يلحقه دهاء في ذلك الوقت ، واشتد هذا المكر بتلاحهم قريش واليهود فأصبح كعب الأحبار وهو شيطان اليهود واعظ المسجد النبوي في زمن عمر بن الخطاب واستمر في منصبه في زمن عثمان بن عفان ، وإذا كان كعب اليهود معلما للمسلمين يعلمهم دينهم فتصور ما يمكن أن يدخله في الدين من افتراءات واسرائيليات لا حصر لها وبلغ ذلك الدهاء قمته في تكفير السلطة للمسلم غير المعتقد بحضور أبي بكر في الغار ، بينما قال الله تعالى في كتابه الشريف : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا ( النساء : 94 ) }.
هذا في الوقت الذي لم يكفر فيه وعاظ السلاطين هؤلاء قتلة فاطمة بنت محمد ( عليهما الصلاة والسلام ) ، ولم يكفروا قتلة الحسين (ع) ولم يكفروا المعتقدين بنقص القرآن ، ولا يعلم الا الله تعالى كم هي أعداد المسلمين الذين قتلوا لعدم إيمانهم بحضور أبي بكر في الغار ، لأن الحكومات كانت تقتل المسلمين بأعذار شتى وتكتم الأسباب الحقيقية لسفكها الدماء ، فلقد قتل الحجاج بن يوسف الثقفي مئة وعشرين الفا بحجج غير معروفة ، وسجن ثلاثة وثلاثين الفا ، وكان من جملة المقتولين على يديه الفقيه الزاهد سعيد ابن جبير وتلميذ الامام علي (ع) كميل بن زياد وعبد الرحمن بن أبي ليلى الذي أخذ القرآن من أمير المؤمنين (ع) فهل قتل هؤلاء لعدم إيمانهم بحضور أبي بكر في الغار والهجرة ، ومؤمن الطاق وكذلك هشام بن الحكم أعظم تلاميذ الامام الصادق (ع) أطلقوا عليهما إسم الشيطان واتهموهما بأنهما يعتقدان بنقص القرآن ، ذلك لأنهما ما كانا يعتقدان بصحبة أبي بكر للنبي محمد (ص) في الغار ، لهذا يجب أن لا نستغرب إذا اكتشفنا الآن أن كل قضية هجرة وحضور أبي بكر في الغار ليس لها أساس من الصحة ، وإنها قضية مختلقة ملفقة ، بل اكذوبة ، ذلك لأنها تصطدم بالحقائق الموضوعية والروايات التاريخية ، ونحن سنناقشها ونعرضها نقديا كي تتضح الصورة للجميع.
إن ما هو منتشر بشكل خاطئ بين المسلمين في شأن هذا الموضوع ، أن النبي (ص) خرج من بيته ليلة الهجرة وقد أنام عليا (ع) في مكانه ، وقد كان خروجه اعجازيا لأن مشركي قريش الذين كانوا يحوطون داره لم يروه بعدما قرأ الآيات : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ( يس : 9 ) } فعموا عن مشاهدته ، ثم توجه (ص) إلى بيت أبي بكر بن أبي قحافة ، وهناك أنتظر إلى الصباح ثم خرج هو وأبو بكر للهجرة بصحبه أحد أدلاء الطرق ويدعى عبد الله بن أريقط بن بكر ، وبدلا من أن يسلك ابن بكر بهما طريق الشمال حيث يثرب ( المدينة المنورة ) فانه سلك بهما طريق الجنوب ، أي جنوب مكة ، تمويها للكفار الذين كانوا يريدون القضاء على خاتم الأنبياء (ص) ورسالته السماوية ، إلا أن الكفار فطنوا إلى ذلك من خلال دليل آخر هو كرز بن علقمة الخزاعي ، الذي تتبع آثار أقدام النبي (ص) وقارنها بقدم جده إبراهيم (ع) ، فوصلوا أخيرا إلى جبل ( ثور ) حيث كان النبي (ص) وأبو بكر في غاره مختبئين ، وعندما وصلوا هناك بدأ أبو بكر يرتجب وكان حزينا وخائفا ، فنهاه النبي (ص) عن ذلك بقوله له : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ( التوبة : 40 ) } وقد جاءت في تلك اللحظات حمامة وباضت بيضة امام الغار ، ثم جاء عنكبوت من العناكب فنسج خيوطه على الغار أيضا ، الأمر الذي جعل كفار قريش ينصرفون لاعتقادهم أنه مادامت الخيوط العنكبوتية موجودة وكذلك البيضة فإن أحدا لم يدخل في هذا الغار.
وكذبوا بذلك دليلهم كرز بن علقمة رغم تأكيده مرارا على أن النبي موجود في هذا الغار ، وبقي النبي (ص) مع أبي بكر في هذا الغار ثلاثة أيام انتظارا لهدوء حملات الملاحقة ضده ، وطوال تلك الفترة كانت أسماء بنت أبي بكر هي التي تأتي بالطعام من مكة إلى الغار لتقديمه إلى رسول الله وإلى أبيها ، بعد ذلك تحرك النبي (ص) نحو المدينة بصحبة دليله عبد الله بن أريقط بن بكر ، ووصل اليها واستقبله المسلمون مبتهجين فرحين ، هذه هي محصلة ما يتناقله المسلمون في شأن قضية غار جبل ثور ، وهي محطة لعبت فيها السياسة بألاعيبها ، ونحن هنا سنبرهن إن شاء الله على بطلان كثير من تفاصيل هذه الرواية بناء على مصادر أهل السنة ، كقضية كون أبي بكر مع النبي في الهجرة وفي الغار ، وكقضية أن أسماء بنت أبي بكر هي التي كانت تغذي الرسول وتهيئ له الطعام وتوصله إليه ، وكقضية أن الحمامة قد باضت والعنكبوت قد نسج خيوطه وما شاكل ذلك من أمور عارية عن الصحة ، والتي شابت هذه الحادثة التاريخية العظيمة عن طريق الاسرائيليات.
( 1 ) - أول ما يجب أن نعلمه أن النبي (ص) قد اعتمد أسلوب السرية التامة في أمر هجرته تلك الليلة ، خاصة بعدما أمر بهجرة جميع المسلمين إلى المدينة ، وأبقى عليا (ع) لأنه وصيه والقائم مقامه في تأدية حقوق وأمانات الناس المودعة عنده ، وكان لابد من اعتماد أسلوب السرية لأن كفار قريش كانوا يحيكون المؤامرات للحيلولة دون وصول النبي (ص) إلى يثرب حيث سيقود من هناك الدولة التي ستحطم ملكهم وسلطانهم وتقضي على جبروتهم ، لذا فإن أحدا لم يكن عالما بخروج النبي في تلك الليلة سوى أهل بيته المقربين ، علي وفاطمة (ع) ، وأم هانيء بنت أبي طالب (ع).
- ومصادر أهل السنة متفقة : على أن أبا بكر لم يكن عالما بخروج النبي في تلك الليلة ، بل فوجئ بمسألة الهجرة صباحا فطلب منه أن صحبه ، فقبل النبي (ص) ، ( تفسير القرطبي: ج 3 ص 21، تاريخ الطبري: ج 2 ص 102، البحر المحيط لأبي حيان: ج 2 ص 118).
- إن هذه السرية تتناقض مع الرواية المنقولة ، والتي تقول بأن النبي قد خرج من بيت أبي بكر نهارا وامام مرأى من المسلمين كلهم ( تاريخ الطبري: ج 2 ص 100) ، فكيف يحرص النبي على انجاح مشروع الهجرة وهو يعرض نفسه للقتل هكذا امام الكفار ، ويمشي أمامهم في النهار في طريقه إلى خارج مكة، وكيف يمكن ذلك وقد كان الكفار يطلبونه ويلاحقونه في أي مكان وقد كانوا ليلتها قد أحاطوا بداره متقلدين سيوفهم عزما على قتله إن هذا يعني الانتحار وهذا يضع علامة استفهام كبيرة على مسألة توجه النبي إلى بيت أبي بكر وانطلاقه من هناك صباحا ، لقد كان من حرص النبي (ص) على انجاح الهجرة والتستر عن أعين المجرمين ، أن طلب من المسلمين القليلين المتبقين في مكة عدم الهجرة في تلك الليلة التي سيهاجر فيها ، مخفيا عنهم سبب طلبه ، وكان من حرصه أن اختار وقت الهجرة ليلا وفي نهاية شهر صفر لئلا يكون في السماء ضوء القمر فينكشف في الطرقات ، فبالنظر إلى هذه الحيطة والسرية الكاملتين ، هل من المعقول أن يخرج النبي (ص) صباحا وامام أعين المشركين ، بالطبع لا .... لذا فما دامت الرواية تقول أنه قد خرج صباحا من بيت أبي بكر فانها تسقط تلقائيا.
( 2 ) - إن الرواية تتقاطع مع روايات أخرى ، قد تبدو مضحكة بعض الشيء ، حيث يذكر أن النبي (ص) خرج من بيته متوجها مباشرة إلى غار ثور ، وفي تلك الأثناء ذهب أبو بكر إلى بيته فلم يجده ، فسأل عليا (ع) فأخبره الامام بأن النبي في طريقه إلى خارج مكة ، فانطلق أبو بكر ليلحق بالنبي وقد كان يحمل جرسا معه ، فعندما أدركه ظن النبي أن أبا بكر من المشركين فأسرع في المشي حتى يبتعد عنه ، ولكن الله جعل شسع نعله ينقطع فانطلق ابهام رسول الله (ص) بالحجر وسالت منه الدماء ، الأمر الذي أدى إلى توقف الرسول عن المسير اضطرارا ، وعندئذ وصل أبو بكر إليه فاجتمع معا وسارا خارج مكة ( تاريخ الطبري : ج2 ص 102) ، إن هذه الرواية توضح جانبا من الكذب والبهتان ، فكيف يمكن أن يدخل أبو بكر بيت رسول الله والحال أن البيت محاصر من قبل المشركين في تلك الليلة العصيبة ولم يكن يسمح لأي أحد بالخروج أو الدخول ، وكيف له أن يسأل عليا (ع) وهذا معناه كشف الخطة النبوية لأنه سيتبين لدى المشركين أن هذا النائم ليس محمدا بل علي ، ثم كيف استطاع أبو بكر أن يعرف الزقاق الذي مر فيه رسول الله (ص) ، وكيف تمكن من تشخيص ورؤية النبي في ذلك الليل الدامس ، أما قضية فلق الإبهام وانقطاع شسع النعل فربما نحن لسنا بحاجة إلى الرد عليها فليس مجرد دم يسير خارج من ابهام رسول الله (ص) بجاعل اياه يتوقف عن اكمال مسيرته تجاه المدينة وتهديد مشروع الإسلام كله للخطر كون أحد المشركين يتعقبه .... لقد أدمي النبي من رأسه إلى أخمص قدميه في رحلته لدعوة أهل الطائف إلى الإسلام عندما رموه ( لعنهم الله ) بالأحجار ، ولكنه لم يتوقف عن أداء مهمته تلك ، فكيف يتخلى عن أداء أعظم المهمات بهذه السهولة.
إن هذه من الأراجيف الواضحة التي تحاول أن تصور أن لأبي بكر منزلة كبيرة عند السماء حتى يجبر الله نبيه على التوقف بايذائه واسالة الدم منه ، إن هذا التناقض يثير علامة استفهام أخرى ، فهل ذهب النبي إلى بيت أبي بكر ومن هناك اصطحبه معه ، أم توجه مباشرة إلى خارج مكة وفي الطريق أدركه أبو بكر ، أيهما نأخذ .... إذا تعارضتا تساقطتا.
( 3 ) - هناك شيء غريب في الرواية المزعومة ، إذ تذكر أن أسماء بنت أبي بكر كانت موجودة في بيت أبيها عندما وصل النبي (ص) إليه ، وأنه استراح فيه قليلا ، ثم أخذ أبا بكر معه ، ومن بعد ذلك كانت أسماء تأخذ اليهما الطعام في الغار .... الغرابة هي في كيف يمكن أن تكون أسماء في مكانين يبعد كل منهما عن الآخر الآف الآف الأميال في الوقت نفسه ، إن التاريخ يقول : إن أسماء بنت أبي بكر كانت في تلك الفترة مع زوجها الزبير بن العوام في الحبشة ( الثقات لابن حبان: ج 3 ص 23 ) ، إن هذا يدلل على أن ( صناعة حكومية ) وراء قصة صحبة أبي بكر للنبي (ص) في تلك الهجرة المباركة.
( 4 ) - هناك سؤال منطقي آخر هو : كيف يتوجه النبي (ص) إلى بيت أبي بكر الذي كان يحوي المشركين ، الا يفترض به أن لا يتوجه إلى ذلك البيت بالذات حتى لا يكشفه أحد من هؤلاء المشركين ، إن بيت أبي بكر كان يضم كلا من : ابنيه عبد العزى وعبد الله ، وأبنته عائشة ، وأمهم أم رومان ( نملة بنت عبد العزى ) بالاضافة إلى أبيه أبي قحافة ، وتنص الروايات على أن عبد العزى بن أبي بكر كان : ( كافرا عنيدا محاربا للإسلام ) ( تاريخ ابن عساكر: ج 13 ص 280 ) ، وكذلك تنص على أن أم رومان كانت كافرة ، وقد طلقها أبو بكر بعد هجرته إلى المدينة عند نزول آية : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ( الممتحنة : 10 ) } وكذلك تنص على أن أبا قحافة - والد أبي بكر - كان كافرا أيضا ( شرح النهج: ج 13 ص 268) ، فهل يعقل أن يتوجه النبي إلى هذا البيت في هذه الليلة الخطيرة التي خططت فيها قريش لقتله ووأد حركة الهجرة ، هل يعقل أن يلجأ النبي إلى الذين يحاربونه ويرصدونه ، هل يعقل أن يتكلم في ذلك البيت عن الهجرة ويأخذ أبا بكر معه ولا يفترض أن أهله المشركين الموجودين في ذلك البيت سوف يكشفون الموضوع لرؤوس الكفر في قريش ، إن هذا يدلل على أن النبي لا يمكن أن يكون قد ذهب إلى بيت أبي بكر اطلاقا ، خاصة وأن عبد العزى بن أبي بكر كان من جملة الذين جندتهم قريش لملاحقة النبي (ص).
( 5 ) - لقد أجمعت الروايات على أن النبي (ص) قد توجه من بيته إلى الغار وحيدا فريدا ، وهذا أصل وجوهر الحادثة ، ( مسند أحمد: ج 1 ص 331، المستدرك: ج 3 ص 133، فتح الباري: ج 7 ص 8، سنن النسائي: ج 5 ص 113، شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: ج 1 ص 135) ، والروايات الملفقة تقول : بأن أبا بكر صحب النبي (ص) في طريقه إلى الغار ، ولكن ذلك يتناقض بشكل صارخ مع حقائق تاريخية ثابتة ، فعندما أخذ المشركون معهم دليلهم كرزبن علقمة الخزاعي لتتبع مسير رسول الله (ص) والقبض عليه ، رأى كرز آثار قدمي النبي ، فقال : ( هذه قدم محمد المشابهة للقدم التي في المقام ) ويقصد بها قدم إبراهيم الخليل (ع) في مقامه قرب الكعبة ، ( الاصابة: ج 5 ص 436، من له رواية في مسند أحمد لمحمد بن علي بن حمزة: ص 360، فتوح البلدان للبلاذري: ج 1 ص 64 ) ، ومادام كرز لم يذكر مشاهدته لآثار قدمي أبي بكر ، فإن الاشكال على صحبته للنبي في هجرته يتعاظم ويكبر ، والمثير أن عبد العزى بن أبي بكر كان من بين مجموعة المشركين الذين كانوا يلاحقون النبي (ص) ( طالع ترجمة عبد الرحمن عبد العزى بن أبي بكر في تاريخ ابن عساكر وأسد الغابة ) ، وذلك يعني أن عبد العزى الذي هو ابن أبي بكر نفسه ، لم يتعرف على قدم أبيه ، كما لم يتعرف عليها الدليل كرز الخزاعي ، وهذا مما يزيد من الاشكال ويدلل على أن أبا بكر لم يصحب النبي أصلا في تلك الرحلة.
( 6 ) - إن الرسول الأعظم (ص) لم يؤثر عنه أي قول أو نص يثبت فيه وجود أبي بكر معه في الغار ، ولو كان كذلك لحصل أبو بكر على منقبة عظيمة يستحق بها المديح والاطراء النبوي بينما لم نلحظ ذلك ، أي لم نسمع بحديث يقول فيه النبي ، عن أبي بكر : ( هو صاحبي في الغار ) مثلا بل على العكس من ذلك سمعنا النبي (ص) يذمه في كثير من المواطن ، فعندما تقدم أبو بكر للزواج من فاطمة (ع) رفضه ، وعندما تقدم عمر رفضه أيضا ، ولكن عندما تقدم أمير المؤمنين (ع) وافق النبي (ص) ، وقال له : ( أنت لست بدجال ) في تعريض واضح منه (ص) بأبي بكر وعمر ، ( مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ج 9 ص 204 ، طبقات ابن سعد: ج 8 ص 12 ، الاصابة: ج 1 ص 374 ) ، ولو كان أبو بكر حاضرا مع رسول الله (ص) في الغار ، وقد نزلت فيه تلك الآية ، لما عرض به النبي (ص) ، يضاف إلى ذلك أن معظم الروايات المنقولة عن صحبة أبي بكر للنبي في الغار ، منقولة على لسان عائشة وأبي هريرة وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر ، وهؤلاء مشكوك في روايتهم لأنهم من المحسوبين علي أبي بكر نفسه ، في المقابل لم نجد أحدا من معارضي أبي بكر ، كسعد بن عبادة والزبير بن العوام والحباب بن المنذر ومالك بن نويرة وغيرهم من الصحابة ، يقر بحضوره الغار ، إذ لو كانوا يقرون بذلك لما عارضوا حكمه وتمردوا عليه ورفضوا مبايعته بدعوى أنه ( أبو فصيل ) أي الذي لا فضائل له أو لقومه.
( 7 ) - جاء في كتاب البداية والنهاية لابن كثير الأموي ، عن الطبري ما يؤيد هجرة رسول الله (ص) إلى غار ثور وحده ، فخاف ابن كثير من هذه الرواية الصحيحة الدالة على بطلان صحبة أبي بكر فارتجف قائلا : ( وهذا غريب جدا وخلاف المشهور من أنهما خرجا معا ) ( البداية والنهاية: ج3 ص 219، السيرة النبوية لابن كثير أيضا: ج 2 ص 236 ).
( 8 ) - أجمعت الروايات على أن النبي (ص) خرج وحيدا إلى الغار ، وهناك سأل الله تعالى إن يبعث إليه من يدله على الطريق ، فكان أن التقى النبي بالدليل عبد الله بن أريقط بن بكر حيث تذكر الروايات أن النبي ، قال له : ( يا ابن أريقط .... أأتمنك على دمي ، فقال ابن بكر : إذا والله أحرسك وأحفظك ولا أدل عليك ، فأين تريد يا محمد ، فقال (ص) : يثرب ، قال ابن بكر : لأسلكن بك مسلكا لا يهتدي فيها أحد ) ، ( المستدرك: ج 3 ص 133، فتح الباري: ج 7 ص 8، سنن النسائي: ج 5 ص 113، شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: ج 1 ص 135) ، فما دام هذا هو الثابت ، أي أن النبي خرج مع ابن بكر - وليس أبا بكر - من الغار متوجها إلى يثرب ( المدينة المنورة ) ، ومادامت جميع الروايات تذكر أن أهل المدينة وكذلك الذين يسكنون ما بين المدينة ومكة ، لم يشاهدوا سوى شخصين اثنين فقط ( الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1 ص 230 ، سيرة ابن هاشم: ج 2 ص 100، عيون الأثر في المغازي والسير: ج 1 ص 248 ) ، فإن ذلك يعني أن أبا بكر لم يكن مع النبي (ص) في هجرته ، لأن ذلك يتطلب أن يرى الناس ثلاثة أشخاص وليس شخصين فقط ، وكما ذكرنا فإن الثابت هو خروج النبي مع دليله ابن بكر ، لأنه بدونه لا يستطيع الاهتداء في طريقه إلى يثرب ، فهو الخبير بالطرقات والمسالك.
( 9 ) - الروايات المختلقة التي تقول أن أبا بكر قد خرج مع النبي (ص) إلى الغار ، تذكر أيضا أن أسماء بنت أبي بكر تزودهما بالطعام طوال فترة مكوثهما في الغار والبالغة ثلاثة أيام ، إن هذا أمر يتناقض مع العقل والمنطق ، لأنه لو كان أبو بكر مهاجرا مع النبي فعلا لكان من أيسر اليسير على مشركي قريش أن يتعقبوا ابنته التي تخرج كل يوم ، ويتتبعوا خطواتها حتى يتوصلوا إلى مكان النبي (ص) ، خاصة وأن عبد العزى بن أبي بكر وهو أخ أسماء ويسكن معها في البيت نفسه ، كان من الذين يلاحقون النبي (ص) ، فكان سهلا عليه ملاحظة أخته وهي خارجة كل يوم حاملة معها الطعام والزاد ، على أننا أثبتنا سابقا أن أسماء لم تكن في مكة أصلا إذ كانت مع زوجها الزبير في الحبشة ، ضمن مجموعة المسلمين الذين لجؤوا إلى هناك ، وهذا التخبط والتضارب يسقط اكذوبة وجود أبي بكر مع النبي (ص) في الغار ، وينفي هجرته معه، بل يؤكد أنه قد هاجر مع بقية المسلمين في المجموعة الأولى المتوجهة إلى المدينة ، خاصة إذا ما أدركنا أن أبا بكر كان ملازما دائما لعمر بن الخطاب في حله وترحاله ، وقد ثبت في السير أن ابن الخطاب قد هاجر إلى المدينة قبل هجرة النبي (ص) اليها.
( 10 ) - جاء في أصح كتب أهل العامة ما يثبت حقيقة أنه لم تنزل آية واحدة في القرآن تمدح أبا بكر أوأهله ، فقد ورد عن عائشة في صحيح البخاري قولها : لم ينزل فينا قرآن ، ( صحيح البخاري: ج 6 ص 42 ، تاريخ ابن الأثير: ج 3 ص 199 ، الأغاني: ج 16 ص 90 ، البداية والنهاية: ج 8 ص 96 وغيرها كثير ) ، وهنا فلنركز قليلا لقد ذكرت عائشة هذا امام جميع الصحابة والمسلمين الأوائل ، وقالت : لم ينزل فينا قرآن ، ولو كانت آية : { ثَانِيَ اثْنَيْنِ ( التوبة : 40 ) } نازلة في أبي بكر لما قالت : هذا الكلام لأنها تنتقص بذلك أباها وتجرده من مزية واضحة في القرآن ، أو على الأقل لرد عليها الصحابة الذين يفترض أنهم متيقنون من حضور أبي بكر في الغار ، ولذكروها بالآية وبقضية هجرته مع النبي (ص) لكن شيئا من هذا لم يحدث ، وهو ما يثبت زيف أحاديث حضور أبي بكر في الغار ، حتى تلك المسندة إلى عائشة منها ، وهذا يوضح أن مسألة حضوره في الغار هي مسألة طارئة ولم تكن معروفة في صدر الإسلام ، خاصة أننا إذا تتبعنا التاريخ فاننا لن نجد اشارات واضحة على لسان أبي بكر حول حضوره في الغار ، وهجرته مع النبي (ص) ، مما يدعم كون القضية من اختلاقات السلطة لاثبات مزية لأبي بكر.
( 11 ) - كان يحيى بن معين من المشككين برواية حضور أبي بكر في الغار الواردة عن طريق أنس بن مالك ، فكانت الشكوك تحوم حول ذلك الحديث بصور متعددة ، ( سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 10 ص 362 ، تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي: ص 29 ) ، وقد ذكر حديث الغار العباس بن الفضل الأزرق ، عن ثابت ، عن أنس، فقال فيه يحيى بن معين : ( كذاب خبيث ) ( تاريخ بغداد: ج 12 ص 133 ) ، وإذا نظرنا إلى رواة حديث الغار ، نجدهم بين كذاب ومدلس وضعيف ، فقد كان سليمان بن حرب يضعف حديث الغار الذي ذكره خالد بن خداش ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب بن نافع ، عن ابن عمر ، ( سوآلات الآجري لأبي داود سليمان بن الأشعث: ج 1 ص 399 ). ولقد ازدادت الطعون في رواة الحديث المكذوب في حضور أبي بكر في الغار ، ( طالع تاريخ بغداد: ج 8 ص 302 ، تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي: ج 1 ص 314 ، تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني: ج 1 ص 27 ، تاريخ دمشق: ج 5 ص 235، سير أعلام النبلاء: ج 12 ص 232 ، ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي: ج 1 ص 73 وغيرها).
( 12 ) - إن الذي كان حاضرا مع النبي (ص) في الغار ، ليس سوى دليله ابن بكر ، الذي التقى به النبي (ص) في اليوم الأول من هجرته ومكوثه في الغار ، فطلب منه مساعدته ، واستجاب الرجل للأمر النبوي ، وقد ذكرت مصادر العامة أن ابن بكر كان مشركا في ذلك الوقت وهنا نضع علامة استفهام كبيرة ، إذ لو كان ابن بكر مشركا حقا فما الداعي لأن يساعد رسول الله (ص) ، إن هذا يكشف جزءا من الحكمة النبوية ، فلقد كان ابن بكر يمارس التقية ، وكان يخفي إسلامه حتى يقوم بهذه المهمة العظيمة في حفظ رسول الانسانية وايصاله سالما إلى المدينة ، لقد كان ابن بكر معروفا في أوساط كفار قريش بالكفر ، وكان يتظاهر بعبادة الأوثان حتى لا يشكوا فيه ، خاصة أنه كان من أشهر الأدلاء على الطرق ، إنه لم يرد في التاريخ أن النبي (ص) منح مكافأة لابن بكر ، أو أنه كانت لديه مصلحة معينة معه ، حتى نقول مثلا أنه قد ساعد النبي في الهجرة لغرض دنيوي ، فلابد لنا والحال هذه أن نقول : بأن ابن بكر كان رجلا مسلما صالحا قام بدوره بدافع من عقيدته ، والذي يؤيد ذلك أنه مادام غائبا عن أذهان مشركي قريش أن ابن بكر مسلم ومن اتباع محمد (ص) ، فانه لا يكون مراقبا من قبلهم ، وبذا يمكنه أن يوصل الطعام والأخبار إلى النبي في الغار طوال فترة مكوثه فيه ، والبالغة ثلاثة أيام حتى يهدأ ويسكن الطلب عليه ، ثم يتوجه به إلى المدينة ، والواضح أن ابن بكر في احدى زياراته للنبي (ص) في الغار ، تفاجأ بمجيء مشركي قريش ووصولهم إلى الغار عن طريق الاستدلال على آثار قدمي النبي (ص) ، وهنا حزن ابن بكر وخاف ، فلجأ إلى الغار وطمأنه النبي (ص) ، ثم انصرف المشركون بالاعجاز الإلهي ونزلت الآية.
( 13 ) - الظاهر أن الماكرين قد قاموا بتصحيف وتزوير كبيرين ، ليوافق إسم ( أبي بكر ) إسم ( ابن بكر ) ، فقد غيروا إسم أبي بكر الحقيقي ( عتيق ) وجعلوه ( عبد الله ) ليوافق إسم ( عبد الله ) بن أريقط بن بكر ، ( مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 13 ص 35) ، وبهذا بقي التغيير بين ( ابن بكر ) و ( أبي بكر ) وهو سهل وبسيط ، لأن الكتابة في السابق لم تكن منقوطة ، لذا فإن إسم أبي بكر وكذلك ابن بكر يكتبان بالطريقة نفسها ، ولهذا نظائر في التاريخ ، فقد قام العباسيون بتصحيف إسم عباس بن نضلة الأنصاري ، الصحابي الذي استشهد في معركة أحد ، ليسرقوا فضائله ويلصقوها بالعباس بن عبد المطلب.
( 14 ) - إن الروايات التي تذكر هجرة أبي بكر مع خاتم الأنبياء (ص) هي روايات اسرائيلية ، لأنها تشتمل على بعض التفاصيل الواضح اتصالها باليهود وتراثهم ، من تلك القضايا ، أن حمامة قد جاءت وباضت بيضة امام الغار ، وأن عنكبوتا قد جاء ونسج خيوطه على فتحة الغار ، الأمر الذي جعل المشركين يتوهمون عدم وجود أحد فيه ، وهذا الأمر مناقض للعقل وللصحيح من الروايات ، لأن غار ثور - كما شاهدناه - هو غار صغير لا تتعدى مساحته مترين مربعين فقط ، فمن غير الممكن أن يحجب أي شيء الرؤية إلى داخله ، فلو وقف أي شخص امام فتحة الغار لشاهد كل ما فيه بشكل واضح جدا ، لأنه غار صغير ، ويضاف إلى ذلك أن هناك فتحة أخرى جانبية في الغار ، الأمر الذي يجعل الضوء ينفذ ويضيء الغار بأكمله مما يسهل الرؤية ، لذا فلا معنى لخيوط عنكبوت ولبيضة حمامة ، فالرؤية واضحة تماما ، والحقيقة أنهم قد جاؤوا برواية العنكبوت من سيرة النبي داود (ع) في كتب اليهود ، حيث نسج العنكبوت خيوطه على غار داود (ع) عندما لاحقه جالوت بغرض قتله ، ( تفسير القرطبي: ج13 ص 346 ) ، والصحيح أن المشركين عندما وصلوا إلى الغار عميت أبصارهم ولم يتمكنوا من مشاهدة أي أحد داخل الغار ، كما حصل عندما مر النبي (ص) امام أعينهم في خروجه من بيته في مكة المكرمة ، قال أبو الطفيل عامر بن واثلة ، عن أبيه : ( كنت أطلب النبي فيمن يطلبه وهو في الغار ، فنظرت فيه فلم أر أحدا ) ونظر القرشيون في الغار أيضا فلم يشاهدوا أحدا ، ( الاصابة: ج 7 ص 194) ، إن هذا يؤكد أن المشركين قد عميت أبصارهم عن مشاهدة رسول الله (ص) ، وكذلك صاحبه ودليله عبد الله بن بكر.
( 15 ) - نجد في التاريخ أن أعاظم أصحاب الأئمة ( صلوات الله عليهم ) قد اتهموا بعدم اعتقادهم بوجود آية : { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ( التوبة : 40 ) } ضمن القرآن لأنهم لا يعتقدون بنزول آية واحدة في حق أبي بكر ، قال ابن حجر العسقلاني نقلا عن الحافظ : أخبرني : النظام وبشر بن خالد ، قالا : قلنا لمحمد بن جعفر الرافضي المعروف بشيطان الطاق : ويحك أما استحييت لما قلت : إن الله لم يقل قط في القرآن : { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ( التوبة : 40 ) } قال : فضحك طويلا حتى خجلنا نحن وكنا نحن الذين قلنا ذلك ( لسان الميزان لابن حجر العسقلاني: ج 5 ص 108) ، إن مؤمن الطاق من أعظم تلاميذ الامام الصادق (ع) ولا يمكن أن يخرج عن اعتقاده ، والواضح أن اتهامه بها الاتهام الخطير مرده إلى عدم اعتقاده بنزول آية آية في شأن أبي بكر ، مما يعني أن آية : { ثَانِيَ اثْنَيْنِ ( التوبة : 40 ) } عنده نزلت في رجل آخر ، وهو ابن بكر ، ولذا وجدنا خصومه يشنعون عليه عندما رأوه ينفي نزول قرآن في حق أبي بكر ، والتهمة نفسها اتهِم بها هشام بن الحكم ، الذي كان يقول بعدم نزول قرآن في شأن أبي بكر ، وبذلك رموه بنقص القرآن لأنهم ربطوا آية الغار بأبي بكر غصبا ، فيكون عندهم الذي لا يعتقد بنزول آيات في أبي بكر كمن يعتقد بنقص القرآن.
( 16 ) - كان العلماء والمثقفون والحكام من التابعين المنتشرين في شرق الأرض ومغربها عارفين بعدم صحبة أبي بكر للنبي (ص) في الغار والهجرة ، ومن هؤلاء محمد بن المهدي مؤسس الدولة الفاطمية الذي كان يكذب حضور أبي بكر في الغار وهجرته مع الرسول (ص) ، ( سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 12 ص 133) ، ومحمد بن المهدي من العلماء الأشراف المنحدرين من نسل رسول الله (ص) وقد هاجر من الكوفة إلى شمال أفريقيا حيث مكنه الله تعالى من تأسيس أبقوي دولة إسلامية في أفريقيا ثم ازدادت عظمة بعد سيطرتها على شبه جزيرة العرب والشام ومصر متخذة من القاهرة عاصمة لها ، إن مما هو بين أن قصة هجرة النبي (ص) مع أبي بكر وحضوره واياه في الغار هي من اختلاقات الأنظمة الحاكمة ، ولقد شرحنا في كتابنا الذي سيصدر قريبا إن شاء الله تعالى كيفية ترسيخ الحكومات تاريخيا لهذه القصة في أذهان الناس ، فقد قامت السلطة بحرق جميع الأحاديث الواردة عن رسول الله (ص) لطمس كثير من الحقائق ومن بينها حقيقة أن الذي هاجر مع النبي هو دليله ابن بكر ، وليس أبا بكر ، وما دام ذلك قد حصل فانه يسهل الترويج لأية اكذوبة لأنه ما من مصدر يرجع إليه المسلمون للتأكد من صحة هذا الحديث ، وقد استمرت سياسة التعتيم على الأحاديث النبوية حتى أيام عمر بن عبد العزيز الأموي ، أي بعد عشرات السنين من حادثة الاحراق والمنع من تدوين السنة النبوية الشريفة ، ومثلما اختلق الأمويون رواية أن لرسول الله (ص) ابنتان قد زوجهما من عثمان بن عفان ، مستفيدين من كونهما من ربيبات خديجة أم المؤمنين (ع) ، كذلك فقد عمد رجال السقيفة ومن تبعهم من الأمويين إلى تزوير حادثة الغار والصاق أبي بكر بها زورا ، مستفيدين من شخصية ابن بكر الذي هاجر مع النبي فعلا ، كما قام العباسيون بالاستفادة من شخصية العباس بن نضلة الأنصاري وسرقة فضائله لجدهم العباس بن عبد المطلب ، وبعد التوفيق الإلهي لنا في التوصل لهذه الحقائق العظيمة لنا أن ننفض غبار الأكاذيب عن السيرة النبوية العظيمة ، والوصول إلى الواقع نعمة ربانية عظيمة لنا بعد 1420 سنة من الجهل المطبق على هذه الحادثة ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
العلامة الشيخ نجاح الطائي مجلة المنبر العدد 19 (السنة الثانية) شهر رمضان 1422.
|